الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      عفة الشيخ الطبري

      جميـل ورائـع أن يكون الإنسـان كريما، فيعطي ممـا أعطاه الله تعالى، وربما كان أجمل من ذلك وأروع أن يكون الإنسان متعففا، وخصوصا إذ كان من رجال العلم والشريعة، تذكر لنا كتب التراث أن شيخ المفسرين والمؤرخين الطبري غادر بلده متوجها إلى بغداد، وهي يومذاك قبلة طلاب العلم، ومكان تجمع العلماء، ولأنه غريب يدخل العاصمة لأول مرة، لذا سقط طعمة سهلة بأيدي بعض لصوص العاصمة، فأخذ ما معه من متاع؛ فماذا يفعل؟

      أشار عليه بعض من يعرفه بأن يتولى تأديب وتعليـم بعض أبناء الوزراء كي يعيش ويواصل تعليمه، فماذا يفعل؟

      لقد جاء يطلب العلم ويخشى أن تضيع أوقاته في تعليم غيره، فماذا يفعل؟

      أترك للشيـخ الذهـبي وصف ذلك، والإجابة عن كافة التسـاؤلات، فقد كتب قائلا [1] : أن أبا جعفر الطبري لما دخل بغداد كانت معه بضاعة يتقوت منها فسرقت منه، فأفضى به الحال إلى بيع ثيابه وكمي قميصه، فقال له بعض أصدقائه: أتنشط لتأديب بعض ولد الوزير ابن خاقان؟

      قال: نعم.. فمضى الرجل، فأحكم له الأمر، وعاد فأوصله إلى الوزير، بعد أن أعاره ما يلبس، فقر به الوزير ورفع مجلسه، وأجـرى عليه عشرة دنانير [ ص: 68 ] في الشهر، فاشترط - أي أبو جعفر- عليه أوقات طلبه للعلم والصلوات والراحة، وسأله إسلافه رزق شهر ففعل، وأدخل في حجرة التأديب، وخرج إليه الصبي، فلما علمه الكتابة أخذ خادم اللوح، ودخلوا مستبشرين، فلم تبق جارية إلا أهدت إليه صينية فيها دراهم ودنانير، فرد - الطبري- الكل وقال: قد شورطت على شيء، فلا أخذ سواه، فعلم الوزير ذلك، فأدخل عليه فسأله، فقال: هؤلاء عبيد، وهم لا يملكون، فعظم ذلك في نفس الوزير. وكان ربما أهدى إليه بعض أصدقائه شيئا فيقبله ويكافئه أضعافا، لعظم مروءته".

      سؤال: واضح أن الطبري لا يملك شيئا، وما قدم له هدية وليست رشوة، فلماذا رفضها، بينما يتقبل هدية الأصدقاء؟

      جواب: لا أجد تعليلا سليما سوى "التعفف"، فهو في مثل هذا الموقف غير متهم، ولو أخـذ ما قدم له فـلن ينـكر عليه أحد، لكنه حيث يترفع فلا يقبل الهدية، فإنه يبرز سلوك العالم العفيف، الذي اضطرته صروف الدهر للعمل مؤدبا، وقد جاء يطلب العلم لا الكسب.

      قضية أخرى: حين تشيع روح الجهاد في الأمة يستأسد حتى الصبيان، ويتطلعون للشهادة، ويشـاركون في المعارك، بفدائية لا تنـاسب أعمارهم، لقـد شهـد معركة بدر الكبرى شباب رد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم لصغر سنه، وقد أخرج البخاري فيمن شهد بدرا، قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه [2] :

      "إني لفي الصف يوم بدر، إذ التفت، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمـكانـهـما، إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه، يا عم، أرني أبا جهل؛ فقلت: يا ابن أخي، وما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه؛ فقال لي الآخر سرا من صـاحبه [ ص: 69 ] مثله؛ قال -أي ابن عوف-: فما سرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه، وهما ابنا عفراء".

      ونحن اليوم نجد مثل ذلك في صبيان فلسطين، يقتلون يوميا فلا يهابون ولا يخافون، بينما لا يجرأ عدوهم أن يبتعد عن دبابته أو آليته العسكرية، وصدق الله: ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) (البقرة:96)، أي حياة مهما كانت، واليهودي في حرصه على الحياة سيظل جبانا حتى قيام الساعة.

      وعودة للعلم والعلماء، فقد تناغم موقف الأمة، فهذا العالم يكتب كتابا جيدا يحتفظ بأصله ويعيره للنسخ حتى يتداول.

      وحين كتب أبو عبيد كتابه الرائع "غريب الحديث" عرض على أمير خراسان آنذاك فاستحسنه فقام بتخصيص راتب مجزي لكاتبه يدفع له مدى الحياة، حتى إذا مات دفع ذلك المال لأولاده من بعده، إنه التقدير العالي للعلم والعلماء، وهكذا تنهض الأمة وتسود.

      كتب الذهبي قائلا [3] : حين كتب أبو عبيد كتاب "غريب الحديث" عرض على عبد الله بن طاهر، أمير خراسان، فاستحسنه وقال: إن عقلا بعث صاحبه على عمل مثل هذا الكتاب، لحقيق أن لا يحوج إلى طلب المعاش، فأجرى له عشرة الآلف درهم. [ ص: 70 ]

      وتتمـة للخبر: لما مات ابن طاهر، كان إسحاق بن إبراهم يدفع ذلك لأبي عبيد، حتى إذا مات صار ذلك لأولاده، علما بأن ما تحتاجه عائلة متوسطة هو (درهم يوميا)، وقد كان راتب بعض رجال الحديث نصف درهم لا أكثر، فـتـخـصـيـص مبلـغ عـشـرة آلاف درهم كثير جدا، وعطاء فيه كرم، بل كرم كبير، ولكن ليس فيه إسراف، فلا إسراف في العلم، ولا لأهله.

      إذا لنبق في العلم والعلماء، فقد كان طاهر بن عبد الله بن طاهر ببغداد، فكان يطمح أن يسمع من أبي عبيد بن سلام الحديث، وكأمير ابن أمير أراد أن يأتيه ابن سلام في منزله ليسمع منه، فرفض ذلك، بأن هذا ليس من أدب العلماء، حتى اضطر طاهر أن يذهب إليه ويسمع منه.

      لكن الأمر يختلف حين يكون بين عالمين، فإن هذا الحرج يزول، إذ يحمل المؤلف كتابه ليزور رفيقه، ولا يرى في ذلك حرجا. وفي هذا يخبرنا الذهبي أنه حين قدم علي بن المديني وعباس العنبري، وأحبا أن يسمعا "غريب الحديث" لابن سلام، راح يحمل كل يوم كتابه ويأتيهما في منزلهما، كل ذلك إجلالا وتقديرا لعلمهما [4] .

      سؤال: لماذا هذه الحساسية وهذا التفريق؟

      جواب: ربما كان هناك شبهة تزلف للحاكم، أما بين العلماء فلا شبهة، فالـعـلم نسـب، كما يقال، والعالم لا يتـكبر عـلى أخـيـه، ولا يتـأبـى أن يزوره في بيته ليقرأ له. [ ص: 71 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية