الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      ما يملكه عرب الجاهلية

      في عرب الجاهلية فساد كبير في الدين والاعتقاد، وضلال عبادة لأصنام لا تنفع ولا تضر، ومن هنا جاء وصف.. "الجاهلية"، لكنهم يملكون صفات خلقية جيدة مثل الصدق والعفة والشجاعة وحفظ الأمانة ورعاية الجوار وإكرام الضيف، وأمثال ذلك كثير، وهكذا يمكن أن نفهم قول الحق: ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) (الأنعام:124)، في الأشخاص والشعوب، لذا فقد شهد العالم نهضة في مدة قصيرة، بعد أن تخلص إنسان الجاهلية من فساد العقيدة وسلبياتها.

      وهـذه "عينة" جيدة، ترى ما يلحق بالمسلمين عموما، وبصاحب الرسـالة من أذى، فتنـكره وتحمله على ترك بلده؛ لأنه لم يستطع منع قومه من ذلك.

      ويجـد ثـمة أموال مودعة عند أبيه.. قد صارت أمانة عنده، فيطلبها قومه، فيرفض تسليمها ما دام حيا، ولا يكتفي بل يتكلف بالسفر إلى المدينة، ليقـابل صـاحب الرسـالة صلى الله عليه وسلم وهنا يشـتـرط عليه قومه أن لا يتناول طعاما، ولو كان جـائعا، فيلتزم بـهذا الشرط الغريب، ويعاونه صاحب الرسالة في الوفاء بما تعهد. [ ص: 40 ]

      إنه "جبير بن مطعم"، فقد كتب الذهبي في موسوعته الرائعة "سير أعلام النبلاء" قال جبير بن مطعم [1] : كنت أكره أذى قريش لرسول الله، فلما ظننا أنهم سيقتلونه لحقت بدير من الديارات - والدير مكان عبادة للنصارى- فذهب أهل الدير إلى رئيسهم فأخبروه، فلما اجتمعت به وقصصت عليه أمري قال: تخاف أن يقتلوه؟ قلت: نعم، قال: وتعرف شبهه لو رأيته مصورا؟ قلت: نعم، قال الراوي: فأراه صورة مغطاة، كأنها هو، وقال - أي رئيس الدير-: والله لا يقتلوه، ولنقتلن من يريد قتله، وإنه للنبي، فمكثت عندهم حينا، ثم عدت إلى مكة، وقد ذهب رسول الله إلى المدينة، فتنكر لي أهل مكة وقالوا: هلم أموال "الصبية" - أي من صبأ - ويقصدون المسلمين- التي عندك والتي استودعت عند أبيك، فقلت: ما كنت لأفعل هذا حتى تفرقوا بين رأسي وجسدي، ولكن دعوني أذهب فأدفعها إليهم، فقالوا: لنا عليك عهد الله وميثاقه أن لا تأكل من طعامه، أي من طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم .

      فقـدمت المـدينة، وقـد بلغ رسـول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فدخلت عليه فقال لي فيما يقول: ( إني لأراك جائعا، هلموا طعاما ) فقلت: لا آكل خبزك، فإن رأيت أن آكل أكلت، وحدثته - أي بما أخذ عليه من عهد، فقال: ( فأوف بعهدك )

      سؤال: هل كان قد أسلم في هذا الوقت؟ [ ص: 41 ]

      جـواب: لا، لم يكن قـد أسـلم، ولـكنه يحفـظ أمـانة كانت مـودعـة لدى أبيه، ثـم صارت إليه، ومن واجبه -حسب العرف- أن يسلمها لأهلها، ولو كلفه ذلك روحه.

      سؤال: ما دام على دين قومه فلماذا التزم لهم بالعهد مع شدة جوعه، ولماذا شجعه صاحب الرسالة على الوفاء بوعده؟

      جواب: هذا أيضا من خلق أهل الجاهلية، لقد التزم وعيب عليه خرق هذا الالتزام.

      أما تشجيع صاحب الرسالة له، فهو يدعو للوفاء بالعهد بنفسه، ويدعو المسلمين لذلك، ويشجع حتى الكافر عليه، لأن الوفاء بالعهد خلق كريم، وسيعود هذا الرجل إلى قومه ويخبرهم بكل ما حصل فيعرفون أن الإسلام يعلم الناس هذا الخلق، إلى أمثال ذلك من الخلق النبيل.

      وبالمناسبة، فحين ابتلي الإسلام والمسلمون بالنفاق والمنافقين، وحصول الأذى الكبير منهم، حيث صاروا (طابورا خامسا) يشيعون التخاذل وقالة السوء، طلب بعض الصحابة أن يقتلوا، فرفض رسول الله، عليه السلام، ذلك، معللا: كي لا تقول العرب بأن محمدا يقتل أصحابه؛ لأن المنافقين كانوا جزءا من المجتمع الإسلامي شكلا، وإن كانوا من الأعداء حقيقة.

      من هنا، كان جواب صاحب الرسالة: ( فأوف بعهدك ) (ليكون درسا لمن خلف "جبير" وليعلموا عمليا أن صاحب الرسالة لا يكتفي بالدعوة القولية، بل بالفعل كذلك. [ ص: 42 ]

      قضية أخرى، ولكن من محيط آخر، فحين باشرت أمتنا بالنهوض ودخول التحضر من أوسع أبوابه، شاع فيها حب العلم والتعلم، بل عشق ذلك، يستوي فيه الغني والفقير، والصغير والكبير، والحر والعبد، وراح العلماء يتعهدون طلبتهم، فإذا وجدوا طالبا نابها التزموه ووفروا له ما يحتاج، ولو كان فقيرا معدما. ينقل عن أبي يوسف، تمليد أبي حنيفة، وخليفته في المذهب، قـوله: كنت أطـلـب العـلـم وأنا صقل - أي فقـير- فجاء أبي وقال: يا بني، لا تمـدن رجـلك مع أبي حنيفة، فأنت محتـاج، فأثرت طاعة أبي، فأعطاني أبو حنيفة مئة درهم، وقال: الزم الحلقة، فإذا نفذت هذه فأعلمني، ثم أعطاني بعد أيام مئة [2] .

      فحين يجد الطالب أستاذا يتعهده هكذا، فلن يقصر في العلم، ولن يزهد فيه، ولن يعرض عنه ليشتغل في أمر آخر، ومعروف أن أبا يوسف صار قاضي القضاة، أي وزير العدل في مصطلحات اليوم. [ ص: 43 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية