الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      مرجعية الأخلاق

      سؤال: هناك تساؤل كبير عن مرجعية الأخلاق، هل المرجعية فيها الدين أم العقل؟ وهل يمكن اعتبار اللذة والنفع مقياسا لها؟

      جـواب: الأديان السماوية كلها تعتبر الدين هو المرجع الأساس للأخلاق، أما غير المتدينـين فيجعـلون العـقل هـو المرجع، ويجعلون الأساس فيها تحقق اللذة والمنفعة.

      يتحدث د. عبد الوهاب المسيري في كتابه (فكر الاستنارة)، عما يسميه مشكلة المشاكل فيتساءل [1] : كيف يمكن للعقل في إطار العقلانية المادية أن يفرق بين ما هو أخلاقي وبين ما هو غير أخلاقي؟ فالعقل إذا كانت مرجعيته النهائية الطبيعة، أي المادة، وهو قادر على اكتشاف مبدأ السببية العامة في الأشياء، والدوافع الغرائزية في الإنسان، التي تؤكد الحتميات المادية الخارجية، وتنكر ضمنا استقلالية الإنسان وحركته، علما بأن (العقل المادي المحض) يوجد داخل حيز التجربة المادية فحسب، وقد وصفه أحد المفكرين بأنه لا يشع نورا، وإنما هو موصل جيد للنور أو الظلام، فهو مثل (الكمبيوتر)، يتعامل مع [ ص: 80 ] المعلومات، يوظفها ويرتبها لكنه لا ينتجها، ولو أعطيته حقائق صماء ومتغيرات لا علاقة لها بالقيمة، فهو كأداة كفأة قادرة على الملاحظة والتجريب والتفكيك، ورصد لما هو كائن، لكنه يقف عاجزا عن تزويدنا بما ينبغي أن يكون، وعن التمييز بين الخير والشر، ذلك أن مرجعيته النهائية هي الطبيعة، وهي محايدة حيادا رهيبا، بل قد تكون شريرة، فالخير حقيقة والشر كذلك، وكلا الاثنين حقائق..

      سؤال: هذا تجريد جيد ونريد أمثلة على ذلك...

      لنضرب مثلا، فإن إبادة العجزة والمعوقين، وأفراد الأقليات، مسألة تحرمها كافة الأديان السماوية، فماذا لو حدث وأثبت أحد العلماء المستنيرين الجدوى الاقتصادية المادية في القضاء على هذا (الفائض البشري)، والذي لا فائدة مادية ترجى منه؟ وماذا لو كشف أحد البراهين والأدلة المقنعة أن إبادة هؤلاء تشكل عنصرا من عناصر التقدم، وعلاجا ناجعا لمشكلة تكاثر وتزايد السكان، مع محدودية المصادر الطبيعية؟ ألا يمكن تحديد النسل مثلا بل تحسينه من خلال إبادة هؤلاء؟

      ألا يمكن كذلك تحسين الإنتاج وتوفير الكثير باعتبار هؤلاء لا عمل لهم ولا إنتاج (كما قال النازيون الألمان)؟

      إن إبادة مثل هؤلاء، من منظور اقتصادي طبيعي، محايد، أمر مفهوم تماما، متى كانت المرجعية الوحيدة هي الطبيعة المحايدة، فهي لا تحابي أحدا، [ ص: 81 ] بالإضافة لذلك فكل الحيوانات تترك المسنين والمعوقين من جنسها كي يلاقوا مصيرهم، فلا تحملهم معها، كما يفعل الإنسان، وماذا يمكن للعلم أو العقل أن يفعل مع هذا العالم النازي، الذي أثبت بالمنطق الرياضي الصارم وبالتجربة (أي بالعقل والحواس والمنطق المادي) أن قتل هؤلاء ومعهم جرحى الحروب واليهود والغجر سيوفر الكثير للاقتصاد الألماني؟ وقد قام بتجارب على التوائم، لا تـعرف الرحمة أو الشـفـقـة، فكان يضع طفلا في غرفة، ويضع شقيقه التوأم في أخـرى، ثـم يخـضـع الأول لأشـكال مـن الـتـجـارب العـمـلـيـة مثـل تعـذيبـه أو تسخينه أو تبريده، ثم يقوم بقياس الحالة النفسية لأخيه!

      والسؤال: هل يختلف هذا عن التجارب النووية وتجارب الأمصال الجديدة والتي تجري على البشر دون علمهم؟

      لقد تراكم كم هائل من المعلومات من خلال التجارب النازية.

      سؤال أخير: ما مدى مشروعية استخدام مثل هذه المعلومات والتي يجرى الحصول عليها بطرق شيطانية سرية ملتوية؟

      وسؤال آخر: ماذا يمكن للعقل أن يفعل مع النظريات العرقية مثلا والتي تنكر المساواة بين البشر، ثم تأتي بمعادلات رياضية عن معدلات الذكاء، ورسوم بيانية عن حجم الجمجمة، ومدى كفاءة عرق معين في إدارة الصراع مع الطبيعة والإنسان؟ وهل يمكن أن يستمر العقل في الإصرار على ضرورة المساواة بين البشر، خصوصا بعد أن أنكر أصلهم؟ [ ص: 82 ]

      وأخيرا: أليس هذا نوعا جديدا من الغيبية التي نهرب منها؟ ثم ماذا يمكن للعقل أن يفعل مع بعض العقليات، التي تقبل بنسبية الأخلاق وبحتمية الصراع، كنمط وشكل أساس في الحياة؟

      وانطلاقا مما تقدم، هل يمكن قبول قتل الآخرين وتدمير الأرض؟

      جـواب: إن العـقـل الحـر والمسـتـقـل والذي لا تـمـده حـدود أخـلاقيـة أو إنسـانية فـهـو يسـخر العـالـم لمـصـلحـتـه، بـل يلتهـمـه الـتـهـاما ويبـدده، إنه عقـل (أداتي) لا يدرك مـاضيا ولا مسـتـقـبـلا، ولا يعـرف مرجعـا معينا، ولا غاية ولا هدفا.

      وأخيرا، فثمة علاقة أو مشكلة حول علاقة المعرفة بالأخلاق، فهناك معرفة تغرق بين الخير والشر، وهذا يختلف عن فعل الخير وتحاشي الشر، فالمعرفة عادة لا تتضمن (الإرادة الحرة)، أما الفعل الأخلاقي فهو يستند إلى مثل هذه الإرادة.

      الإنسان بعد أن يعرف الفرق بين مصلحته الشخصية الضيقة، والمصلحة العامة، ويعرف أن تركيزه على مصلحته الضيقة يمكن أن يودي بالمجتمع ومصلحته، بل بالإنسان كفرد فيه، فكيف يمكن أن نقنع هذا الإنسان بالانتقـال من المعـرفـة المجـردة إلى الفعـل الخـلـقـي؟؟ إنـها المشـكلـة (الهوبزية)، التي لا إجابة لها داخل المنظومة المادية. [ ص: 83 ]

      هذا الدفع بالأخلاق بعيدا عن كل مرجع ديني، دفع بها باتجاه الأخلاق الجاهلية، كما يقول د. غليون، كما أصبحت مسؤولية الإنسان تنحصر في طريقة الأداء، فمتى ما أدى ما عليه من التزام فهو مواطن خير، وقد يكون هذا الأداء قائما على قتل ناس وتعذيب آخرين، وسرقة أعضاء، بل نهب خيرات لشعوب فقيرة وكل ما تملك.. إن الضابط النازي (آيخما) ظل يردد خلال محاكمته في إسرائيل أنه ضابط في جيش دولة داخلة في حرب كونية، فإن رفض إطاعة الأوامر الصادرة إليه فهذا يعرضه للقتل، وإن نفذ هذه الأوامر فهو يحاكم ويهدد بالقتل، فماذا يفعل؟ وما يستطيع أمثاله أن يفعلوا؟ وفي كثير من بلدان العالم يقع الإنسان في هذا المأزق، فيفعل أشياء لا يؤمن بسلامتها، لكنه إن لم يفعل فإن نظم الدولة تستبيح دمة وتحكم عليه بالقتل، وربما طال ذلك أفراد عائلته. [ ص: 84 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية