الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      ضرورة التشريع

      كل مجتمـع إنسـاني بشري يحتـاج لضبطـه وربطـه إلى قيـم شرعية إلهية إن وجـدت، وإلا وضـع لنفسـه هـذه القيـم، حـتى يستـقيم أمره، وقد عالج ابن خلدون ذلك في مقدمته، مستقرئا الموجود في زمانه، فقرر بكل وضوح ضرورة وجود التشريع كي تستقيم أمور الدولة والمجتمع، فإذا وجدت شريعة ربانية استقى منها، وإلا اجتمع العقلاء فوضعوا ذلك، من هنا يحلو للبعض أن يصـف ابن خـلـدون بأنه (شيـخ علماء العلمانية)، ولم يكن الرجل كذلك، بل لاحظ الموجود فوصفه وحكاه ليس إلا.

      وقد وجدت د. برهان غليون يدرس حاجة المجتمع والدولة للقيم والهوية، فيرى أن المجتمعات العربية عموما ما تزال تنظر للدين عموما والإسلام خصوصا على أنه المصدر الأول للقيم، إن لم يكن المصدر الوحيد، كذلك فهو المصدر للأخـلاق أيضا، والقيم والأخلاق هي ما تقوم عليه الحضارة، كما أن الإسلام يشكل المرتكز الأول للهوية، فإذا استبعد الإسلام وهمشت الأخلاق، فإن أفراد المجتمع ينتكسون إلى نوع من الهمجية لا رابط ولا ضابط، سوى القوة، فيدخل المجتمع في صراعات، ويصير القتل والسلب والنهب والعدوان سلوكا يوميا، وعندها يمكن أن تصبح الجريمة اليومية مظهرا من مظاهر [ ص: 72 ] الاحتـجـاج والاعـتـراض، ومـتى وصل مجتمع إلى هذه الحالة فالحرب الأهلية هي الأقرب توقعا، والأسوأ نتيجة.. يقول د. برهان غليون [1] :

      "... في المجتمعات العربية، بشكل خاص لا يزال الدين عامة، والإسلام خاصة، هو المصدر الأول، إن لم يكن الوحيد للقيم الرمزية والتاريخية والأخلاقية، التي يقوم عليها بناء المدنية والحس الحضاري، والإسلام عمليا أهم متركز للهوية، شاءوا ذلك أم أبوا، فإذا افتقدوا الحـوافز، التي يعطيهـا، والمثل التي يقدمها للأغلبية الشعبية الساحقة، لم يبق حاجة يمنع الكتل، التي ردت إلى حالة الصراع من أجل البقاء من التحول إلى جماعات "همجية" لا ضابط لها إلا مبدأ القوة والعسف، وسيتحول القتل والسرقة والنهب والسلب والعدوان إلى سلوك يومي شائع، كما لم يحصل في أي حقبة أخرى، وفي هذه الحالة يمكن أن تصبح الجريمة اليومية هي المظهر الأول للاحتجاج والاعتراض على النظام الاجتماعي، ذلك أن الفعل السياسي، سواء توشح بعقيدة دينية أو مدنية، يحتاج لا محالة إلى حد أدنى من الذاكرة الجمعية، واللغة المشتركة، والقيم المقبولة، والمراجع المستنبطة والغايات والمثل العليا، ولا ينبغي أن نعتقد أنه من الممكن للمدنيات أن تنظر بعيون غيرها أو أن تستبدل منظوماتها المرجعية، أي أن تبدل ذاكرتها، دون أن تفقد بالمقابل وحدتها الأصلية، وشوكتها التاريخية...

      والثقافات والأديان والعقائد والنظم الكبرى ليست مصنوعة لفئات محدودة، صغرت أو كبرت، وهي لا يمكن أن تكون فاعلة في تحقيق المدنية، [ ص: 73 ] وتأمين سير النظام الاجتماعي، وفي المقدمة (السلم الأهلي)، إلا عندما تكون فاعلة بالنسبة للكتلة الساحقة".

      والناظر فيما يقع في بعض البلاد، في دول العالم الثالث، يرى مصداق ذلك في كثير من البلاد في آسيا وأفريقيا، سقطت الدولة أو كادت، وقامت جماعات حزبية أو قبلية أو طائفية، استعملت السلاح أشنع استعمال، والإنسان يعجب لهذا الانحدار نحو القسوة والقتل الجماعي، فمن يملك السلاح يستعمله بكل طاقته، ثم لا يسأل عن النتائج، والقتل يجر للقتل، ومن هنا تكون الثارات، ومن سوء حظ البشرية أن تمتلك كل هذه الأسلحة، للقتل والفتك، ولا يكون القتل إلا لقلة، واليوم هناك القنابل الذكية والغبية، القنابل النووية والهيدروجينية، والصواريخ عابر للقارات، وأسلحة الدمار الشامل!!

      سؤال: هناك مفارقة كبيرة، يتقدم الإنسان علميا وحضاريا، وينتكس سلوكيا وخلقيا، أليس هذه مفارقة كبرى؟

      جواب: التقدم العلمي والحضاري واضح للعيان، ولكن نحن كما قال المؤرخ البريطاني المعروف "توينبي": لقد تقدمنا علميا وحضاريا، ولكنا انتكسنا وسقطنا في الحروب العنصرية والقومية والطائفية، وكل أنواع الحروب.. وقد درس مستشار الأمن القومي السابق "بريجينسكي" [2] حال العالم في القرن العشرين، فسجل ملاحظة ذكية حيث قدر أن العالم يسير نحو التحضر والتخلص من الحروب وسفك الدماء، إلا أنه خاض من الحروب في القرن [ ص: 74 ] العشرين ما يزيد على الحروب السابقة، وقد قدر ضحايا القرن بـ(167) مليونا من البشر [3] .. وقد درس الحروب الروسية، وعددها (ثلاثة عشرة) حربا متصلة، ابتداء بالحرب اليابانية الروسية عام 1905م، وانتهاء بحرب الشيشان، التي ما زالت مستمرة ومستعرة.

      إن الإنسـان طـور عـلـومـه ومعارفه، في مختلف جوانب الحياة، ومن هذا ما صنعه من أسلحة فتاكة، لم يعرف لها العالم مثيلا، في قوة دمارها وفتكها بكل الأحيـاء، ثـم لم يواكب ذلك انضباط خلقي أو ديني، فصارت هذه الأسلحة كمن ملأ بيته بارودا، فلا يعرف متى ينفجر فيهلك كل من فيه، ومن حوله.

      وهنا استذكر أن مستشرقا سئل: عندما أخذنا القدس منكم لم نسفك دما، وأخذناها صلحا، فلما أخذتـموها في الحروب الصليبية، جرت دماء المسلمين واليهود فيها، وحين دخلنا الأندلس وفتحناها كان ذلك بأقل تضحية، فلما قررتم استردادها طردتم ثلاثة ملايين مسلم، وقتلتم عن طريق الحروب ومحاكم التفتيش مئات الألوف، وقمتم بإغراق سفن براكبيها، فلماذا كل ذلك؟

      فكان جوابه: نعم، كل هذا حصل، فقد كنا أمة بلا شريعة ولا قانون، وكنتم أمة صاحبة شريعة وقانون، تعتبر به وتلتزم به، وهذا هو الفارق بيننا وبينكم.. فالعالم بلا دين ولا ضابط عبارة عن سفينة في بحر هائج، بدون ربان، وإلى الله المشتكى. [ ص: 75 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية