الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      البشر.. يساقون إلى أين؟

      سـؤال: الحـيـاة والمـوت مـن السنـن الـكبرى لـكل حي، ونقل عن البعـض قـولـه: "نحن نساق بالطبيعة إلى الموت، ونساق بالعقل إلى الحياة" فما تفسير ذلك؟

      جواب: هذا التفسير لدافع الموت والحياة، ينقله أبو حيان عن شيخه وأستـاذه (أبي سليمان)، وبالمناسبة فهو ينقل عنه الكثير، وعن قناعة تامة، دون تزلف أو نفاق.

      يقول أبو حيان: سمعت الشيخ أبا سليمان يقول: نحن نساق بالطبيعـة إلى الموت، ونساق بالعقل إلى الحياة.

      فما كان طبيعيا فقد أحاطت به الضرورة، وأما الذي بالعقل فقد أطاف به الاختيار، ولذا ينبغي أن نستسلم لأحدهما، ونتحزم للآخر، إذ لا يصح الاستسلام إلا بطيب نفس، وذلك فيما لا حيلة في دفعه، (فالإنسان والحيوان والنبات تموت) ولا يتم التحزم إلا بإيثار الجد والاجتهاد فيما لا ينال إلا به، وأما الضروري فلا يسعى إليه، لأنه واصل إليك.

      الاختيار ينبغي أن لا يكسل عنه؛ لأنه غير حاصل لديك بالضرورة، فانـظر أين تضـع توكلك فيمـا ليـس إليك، ومن أين تطـلب ثـمرة اجتهادك فيما هو متعلق بك. [ ص: 85 ]

      يقـول الشـيـخ: نحـن نقـضي مـا عليـنـا، ونجتهد بما لدينا، ويجري القدر بما شئنا أو أبينا.

      الإنسان مسجون بالضرورة والاختيار، ومع ذلك فمعاده إلى غايته المتوجه إليهـا مـن جـهـة اختياره، ومتـوجـه كذلك من جهـة اضطـراره؛ الاضطرار يكون بما يصرف على وتيرتهما، والاختيار ينسب إلى الصورة، وأما الاضطرار فينسب إلى الأصل، والإنسان حقيقة وصورة.

      وبسبب بعض الالتباس نجد (الصراخ والعويل)، واحتيج فيه إلى القال والقيل، والله المستعان.

      ويمكن أن يضاف هنا أن الإنسان يعيش الحياة ويعرفها أو يتصور ذلك، وهو يخشى الموت وما بعده، وكلما كان صالحا في دنياه قل خوفه، وكلما كان فاسقا فاجرا زاد تخوفه.. سمعت رجلا يقول لآخر في حوار وجدال: (جاءك الموت يا تارك الصلاة)، فطلب المحاور من صاحبه أن يعيد عليه المقالة، وتـوقـف، كأنه يريد أن يعقـلـهـا جيـدا، ثـم راح يكررها، والغريب أنـها فعـلت في نفسه فعل السحر، وبعد أن جاوز العقد الخامس ولم يصل يوما، فقد توجه للصلاة، لقد دقت العبارة (ناقوس الخطر)، في وقت مناسب فاستجاب لذلك الرجل، ومثله كثير.

      سـؤال: نرى بعض النـاس هـيـنـا لـيـنـا، في خـلـقـه وسلوكه، ونرى أخا له، ربما يعيش معه تحت سقف واحد، وقد تربيا في بيت واحد، هذا هين لين وذاك صعب فج مشاكس معاكس، فما تفسير ذلك؟ [ ص: 86 ]

      جواب: هذه حقيقة ملموسة، وقد نقل أبو حيان طرحها وأجاد، فهناك من يعتقد صعوبة تـهذيب الخلق، وتزكية النفوس وتطهيرها، وأن هذا أمر في غاية الصعوبة، بل الوصول إليه محال، وهناك فريق آخر يعتقد أن المهمة سهلة، ويضرب أمثلة لذلك فيمن يريد نظافة بدنه، وتدليك أعضائه، وإماطة الأذى عن عيونه، أو تسريح شعره، فإن السبيل إلى ذلك سهل ميسر، حتى إذا خرج أحد هؤلاء من الحمام نقي الأطراف قد اكتسب صباحة ونظافة وخفة ظاهرة مما كان يلازمه من الأوساخ والأدران، لكنه لو أراد أن يغير في شكله وصورته ولو بشرته وعيونه، أو التلعثم في لسانه فإن الصعوبة تكون أكبر وأعظم، وأساس هذه القضية أن الأخلاق متى أريد تهذيبها وتسويتها وتعديلها، فثمة صعوبة واضحة، لكنها مع ذلك ممكنة في نفسها، في أشياء خاصة، ومواضع معلومة، ومع ذلك فلا ينبغي أن يطمع في الإصلاح كل الطمع، ولا يقطع الرجاء عن إصلاح الممكن منها كل القطع، فمن كان الجبن من طباعه، فمجيء الشجاعة منه بعيد، ومن طبع على الغيرة لم يمكنه أن يغفل عن ذلك، وكل من وجد في طبعه شيء فلا بد أن يظهر، وكذا من كان في قوته شيء فلابد أن يظهر، وهناك تجربة فارسية معروفة، فقد قام مدرب لبعض القطط بتدريبها على حمل شموع والدوران في المجلس، يبرهن أن التطبع قد يغلب الطبع، فما كان من شخص إلا أن يقوم بإحضار فيران، فإذا مشت القطط وبأيديها الشموع مشتعلة، رمى الفيران، فقذفت القطط بالشموع، وراحت تجري للإمساك بالفيران، وكأن الهدف أن يقال: غلب الطبع التطبع. [ ص: 87 ]

      هذا تصور أو تصوير جيد للقضية، وأريد أمثله أخرى.

      جواب: بعض الناس يسرق نظرا لحاجته، وهناك أغنياء في العالم يسرقون أشياء ليست ذات قيمة، ولا تساوي شيئا بالنسبة لما يملكون.

      أعـرف شـخـصـا مـن هـؤلاء كان يقـول ويـردد: أنا أعشق السرقة، فإن لم أجـد مـا أسـرق، سـرقت من جيبـي الأيـمن ووضعته في الجيب الأيسر؛ بعض الناس مولع في المبالغة، فإذا نبه لذلك حاول أن يبتعد، لكنه لا يلبث أن يعود متى نسي ذلك.

      ومن الأمثلة، التي يذكرها (أبوحيان) أن في المجتمع من يمدح الجود ويحث عليه ويحسنه ويدعو له، لكنه لا يعرف الجود ولا يمارسه أبدا، وقد أجاد الشاعر صوغ مثل هذه المفارقة حين قال:


      لولا المشقة ساد الناس كلهمو الجود يفقر والإقدام قتال



      فلا أحد يزم الجود أو يعيبه، ولكن الجود له علة كبيرة، فإذا انفلتت اليد في العطاء فقد تكون النتيجة (فقرا أسود)، ومثل ذلك الشجاعة والإقدام، فقد تصل إلى حد التهور، فيدفع صاحبه حياته ثمنا لذلك، لكن في كل الأحوال من القباحة بمكان أن يكون السلوك بواد والقول بواد آخر، ومن هنا كان الاستهجان لمن يقول شيئا، ويفعل عكسه: ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) (الصف:2-3). [ ص: 88 ]

      سؤال: ماذا عن كسب العلوم والمعارف، وأين موقعها؟

      جواب: يتحدث أبو حيان عن ذلك فيقول: أما المعارف والعلوم فالإنسان يحصلها مما يشبه الخزانة، يرجع لذلك متى يشاء، ويستخرج ما يريد، فقوة الذاكرة تستودع الأمور، التي تستفاد من الخارج، أي من العلماء والكتب، أو من تلك التي تستثار بالفكر والروية من الداخل.

      فجملة معارف الإنسان إما نظرية أو عملية، وهو قادر على الحصول عليها، متى بذل الجهد المناسب، وكان له القدرة على التعلم والاستيعاب... أما المقتنيات فإنه يروم منها ما يروم من تلك، فلذا يغلو فيها، كما يخطئ من الاستكثار فيها، حتى يتنبه بالحكمة إلى ما ينبغي أن يقتني من العلوم والمحسوسات، فيتجه نحو القصد في الأمور جميعا.

      سؤال: هذا عرض جيد، ولدي سؤال: لماذا يحرص الناس على طلب الممنوع والزهد في المباح؟

      جـواب: يرى (التـوحيـدي) أن ذلك بسبب أن الإنسـان يطـلـب عـادة ما ليس عنده؛ وغير المتوفر في خزانته، فيتحرك لاقتنائه وتحصيله، بحسب ميله إلى أحد الأمرين، أعني المعقول أو المحسوس، فإذا حصل عليه سكن من هذه الجهة، وعلم أنه قد ادخره، بحيث يمكنه متى رجع إليه أن يجده، هذا إذا كان مما يبقى بالـذات، ثـم تشوف وتطلع إلى جهة أخرى، وهذا دأبه إلى أن يعلم أن الجـزئيات لا نـهاية لها، وما لا نـهاية له فلا طمع في تحصيله، بل لا فائدة في النزاع فيه وإليه، كما لا وجه لطلبه، سواء في المعلوم أو المحسوس. [ ص: 89 ]

      وإنما ينبغي أن يقصد من المعلومات إلى الأنواع والذوات الدائمة الموجودة أبدا، بحالة واحدة، ويكون ذلك برد الأشخاص إلى الوحدة، التي يمكن أن تتحد بها النفس، ومن المحسوسات المقتناة إلى ضرورات البدن دون الاستكثار منها، فإن استيعاب جميعها غير ممكن؛ لأنها أمور لا نهاية لها.

      وأخـيرا، فـمـا فضل عن الحاجة، وقدر الكفاية، فهو مادة الأحزان والهـمـوم والمـكاره، أمـا الشـي الرخيـص والمـتـوفر كثـيرا فإنـما رغب عـنـه؛ لأنه معلوم متى التمس وجد، لكن الغالي لا يقدر عليه في كثير من الأحيان ومن هنا عز [1] . [ ص: 90 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية