الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      طبيعة التراث

      سؤال: يعتقد أنصار التراث بجودة كل ما يحويه؟

      جواب: لا أحد يعتقد بأن كل ما حواه التراث، على مدى ألف عام ويزيد، كله جيـد ومفيـد، وقـد وجـدت د. محمد امزيان يتحدث عن ذلك في كتابه الجيد "منهج البحث الاجتماعي" فيقول: إن نظرتنا إلى التراث لن تكون نظرة إعجاب وتقديس، لكل ما يتصل بتاريخنا الثقافي، بل ننظر إليه نظرة نقدية واعية، متفحصة لمضامينه، فليس كل ثقافة نمت وارتبطت بالمسيرة الحضارية الإسلامية وتاريخها الثقافي، تعتبر بالضرورة ثقافة إسلامية، أو محسوبة على الإسلام، بكل ما تحمله من مضامين مناقضة ومتعارضة مع روح الإسلام.

      إن الخطأ، الذي يقع فيه باحثون معاصرون، بدافع من الرغبة في إبراز أصـالتـنـا الثقافـيـة في هـذا المجـال، فـإنـهم ينـظـرون إلى الفكر الاجتماعي، الذي خلفته الحضارة الإسلامية نظرة سكونية تبجيلية، فلا يميزون بين ما هو إسلامي أصيل، وبين ما هو دخيل.

      وهذه النظرة إلى تراثنا تنتهي به إلى كثير من التشويه، حيث تفضي الطرق عن مضامين ثقافية متعارضة، تجمع في كومة واحدة.

      سـؤال: في تـراثنا أدب وفـلسـفـة وتصـوف، وجـمـاعـات بـاطـنـيـة، فما موقعها من التراث؟ [ ص: 76 ]

      جواب: أترك الجواب للدكتور أمزيان فهو يقول [1] : إن الركون إلى إظهار التراث الفلسفي أو الصوفي المنحرف، إضافة إلى التيارات الباطنية، كممثل للتراث الاجتماعي في الإسلام، فهذا الركون لن يؤدي إلا إلى عقم هذا العلم، وعدم قدرته على إعطاء الثمرة المرجوة منه.. إن محاولة تأسيس علم اجتماعي إسلامي على غرار ما ورد في المدينة الفاضلة، وأخلاقيات الفلاسفة، وتعاليم إخوان الصفا، لن تكون أكثر من حنين تاريخي لا قيمة له، في توجيه الدراسات الاجتماعية المعاصرة، ودفع عجلتها نحو التقدم، على اعتبار أن هذه المحـاولات، ليسـت قواعـد علمية ومنـهجية، ولا تقرر حقائق اجتماعية بقدر ما هـي خـطرات فـلاسـفـة وتصـورات شخـصية، لا تستمد نظرتها من الأصـول الإسـلامية، بقـدر ما تخـضـع لقـوالب فـكرية غـريبة عن البيئة الفكرية الإسلامية، وتصورات شخصية، لا تستمد نظرتها من الأصول الإسلامية، بقدر ما تخضع لقوالب فكرية غريبة عن البيئة الفكرية الإسلامية.

      إن هذا التراث، الذي نشأ في البيئة الإسلامية، يبقى لونا من "الترف العقلي"، لكنه لا يدخل في نطاف التفكير العلمي القادر على التوجيه والعطاء.

      سؤال: إذن لمن كان التأثير في المجتمع الإسلامي؟

      جواب: إن مراكز التأثير في توجيه الحياة الاجتماعية داخل المجتمع الإسلامي لم تكن تنبع من تصورات الفلاسفة ومثالياتهم وتأملاتهم، كما لم يكن لهؤلاء ذلك الدور الريادي، الذي يريد بعض الدارسين أن يثبته لهم، باعتبارهم [ ص: 77 ] مصلحين اجتماعيين كالفارابي مثلا، بل لم يكن لهؤلاء نصيب من هذا الإصلاح، اللهم إلا ما كان في الجانب السلبي ... وكذلك مثاليات الفلاسفة، ونزعات رجال علم الكلام، وجدالهم، الذي تعدى الجدل في العقيدة إلى مجال المحاكمات السلبية، فهي خير شاهد على الدور السلبي، الذي لعبته هذه الحركات جميعا في توجيه الحياة الاجتماعية داخل المجتمع الإسلامي [2] .

      سؤال: هذا تصور جيد لا ينقصه الوضوح، والسؤال: لقد كان الغرب يؤمن بكثرة الثوابت، فتحول أخيرا إلى عكس ذلك، فما السبب؟

      جواب: التطرف يجلب التطرف، والاعتدال يولد الاعتدال، لقد كان الغرب أيام تحكم الكنيسة، لا يرى في الحياة سوى ثوابت قائمة، وإن وجد متغير فقليل جدا، ومحكوم بالثابت، فجمدت الحياة قرونا، وجاء رد الفعل قويا لينكر الثوابت، ويتمسك بالمتغيرات، وأترك للدكتور أمزيان توضيح ذلك إذ يقول:

      إن المدارس الاجتماعية في سعيها نحو إنكار الثوابت كانت مدفوعة بظروف خاصة، ومحكومة بدوافع تاريخية واجتماعية، ترتبط بالبيئة الغربية الأوروبية، لقد تميز التاريخ الثقافي الأوروبي بالثبات والجمود على صيغ (دوغماتية متحجرة)، فكان من الطبيعي أن يتولد عن هذا الضغط المتزايد فكر مناقض له، يعادي الثبات، ويغض النظر عن التمييز بين ما هو ثابت وما هو متغير، وبعيدا عن ذلك، فقد كان النظام الكنسي يعادي كل تغيير وكل تجديد، مهما كان, وإذا كان لكل فعل رد فعل، فكان إنكار الثوابت هو الجواب على جعـل كل ما في الحياة من الثوابت، يقول سيد قطب في ذلك: [ ص: 78 ] إن الفكر الأوروبي في هروبه من الكنيسة، ورغبته الخفية والظاهرة في خلع نيرها، قد مال إلى نفي فكرة الثبات على الإطلاق، واستعاض عنها بفكرة التطور على الإطلاق، دون أن يستثني منها العقيدة والشريعة، بل كانت فكرة ثبات العقيدة والشريعة هي التي يريد التفلت منها.

      إن فكرة التطور المطلق، الذي لا يتقيد بأي أصل ثابت ولا بأية قيمة ثابتة، ولا بأية حقيقة ثابتة، لم تكن حقيقة علمية، بل شهوة جامحة، وهوى شاردا، مبعثه الرغبة في التخلص من سيطرة الكنيسة.

      إن هذا التوجه المنهجي، الذي سارت عليه "الوضعية" لم يكن صدفة، بل كان رد فعل قوي، يعبر عن خصوصيات الثقافة الأوروبية، والميثولوجيا الوضعية قامت في جو المعاناة وردود الفعل، ومن هذا المنطلق الانفعالي جرى تحديد النظريات الاجتماعية الوضعية موقفها من قضية القيم والمعتقدات والنظم، وهو الموقف الذي تميز بالتأكيد على نسبيتها، ونفي فكرة الثبات عنها، وإحلال فكرة التطوير والتغيير المطلق مكانها، إن لهذه النظرة انعكاسات خطيرة على الضبط الاجتماعي مثلا، فسلوكيات الناس لم تعد تنضبط وفق قيم دينية وأخلاقية محددة، وصار من الممكن توجيه سلوك الناس بحسب قيم جديدة، وجلب الاهتمام إليها، والعمل في نفس الوقت على استبعاد قيم غير مرغوب فيها.. بينما يقر الإسلام بوجود ثوابت أساسية كالعقيدة والأخلاق والحق والباطل والفضيلة والرذيلة، وأما المتغير فهو العرف والتقاليد وما يعود إليهما في التشريع" [3] . [ ص: 79 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية