الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      التراث رأسمال

      التراث رأسمال الأمة، والتفريط فيه خسارة كبيرة؛ د. برهان غليون يقول [1] : من الوهم أن تعتقد جماعة أنها تستطيع أن تندمج في الحضارة من دون أن تحيي تراثها، بالتغاضي أو بالتخلي عنه، فالنتيجة لن تكون إلا انتقاما أكبر للماضي من الحاضر، وتهديدا أعظم لأي جهد تجديدي، كما أنه من الوهم أن تعتقد جماعة أيضا أن تراثها بمفرده مهما كانت عظمته يمكن أن يحفظ لها استقلالها وحريتها ونجاعتها التاريخية؛ إن اكتساب التراث الحضاري الجديد، لا يشكل شرطا أساسيا للدخول في التاريخ المعاصر فحسب، ولكنه شرط أساسي أيضا لإعادة الفاعلية، والقيمة الجادة للتراث القديم.. إن مصير الأمم مرهون بمقدراتها على أن تجعل من تراثها - أي ثمرة أجيالها الماضية وتراكماتها- رأسمالا قابلا للتوظيف في عمليات التجديد والتحضر.

      هذا هو التراث في نظر أستاذ جامعي عربي الأصل في جامعة السوربون، وهذه مهمته، فلا هوية ولا استقلال ثقافي من دون تراث، لكن من يريد أن يساهم في حضارة العالم، فعليه أن يقوم بجهود كبيرة، ولا يكفي أن يعتمد على التراث أو يقف عند حد التغني به والمفاخرة فيه. [ ص: 36 ]

      سـؤال: هـل أفهـم من النص السـابـق أن لا بد من العمل في حقلين في آن واحد، حقـل التراث وإعادة قراءته واستثـمـاره، والتطـلـع لأخـذ دور في حضارة العالم؟

      جواب: هذا ما يطرحه د. غليون في أكثر كتبه، فهو ضد أولئك الذين يريدون الاكتفاء كليا بالتراث، وضد أولئك الذين يريدون حرق التراث، بحجة الالتحام بالحضارة الجديدة واستيعابها.

      سؤال: هل يمكن عرض صورة لمن لا يثق بالتراث ولا يرى جدوى من العناية به وإحيائه؟

      جواب: يقول أحدهم، هذا التراث كله بالنسبة إلى عصرنا قد فقد مكانته؛ لأنه يدور أساسا على محور واحد، هو العلاقة بين الإنسان والله، على حين أن الذي نلتمسه اليوم في النهضة هو محور تدور عليه العلاقة بين الإنسان والإنسان، فالوصول إلى ثقافة علمية وتقنية صناعية لن يكون بالرجوع إلى تراث قديم، بل أن نتجه إلى أوروبا وأمريكا نستقي من منابعها، ما تطوعوا بالعطاء، وما استطعنا من القبول، وتمثل ما قبلناه [2] .

      سؤال: هذا منطلق الكثير ممن يعارضون التراث، فكيف يمكن مناقشة هذه الآراء؟

      جواب: دعوى أن التراث كله يدور حول علاقة الإنسان بالله غير صحيح إطلاقا، وإن كانت أصولنا سماوية، فمن يدرس الإسلام سيجد عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات بين الناس هي الأكثر والأعم. [ ص: 37 ]

      لنأخذ المعاملات وأولها الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ونفقه ووصية وإرث، كل تلك التشريعات للبشر وبين بعضهم بعضا، فإذا انتقلنا للمعاملات من بيع وشراء وإجارة ورهن وربى وشركات وقروض وشفعة وسلم وكافة العقود، فهي بين البشر حصرا.

      وهناك نظام الحكم وشروط الحاكم وحقوقه وواجباته، وحقوق وواجبات المحكوم، كلها أمور بشرية.

      ومثل ذلك، الأمور المالية، من أين تؤخذ ولمن تعطى وأين تنفق، كلها من البشر وإليهم.

      أمر آخر: أولئك الوافدون على بلاد المسلمين، من غير المسلمين ما هي حقوقهم وما هي التزاماتهم وواجباتهم، كل ذلك بين البشر.

      علاقة الدولة المسلمة بالدول الأخرى، في حالتي السلم والحرب، كل ذلك علاقات بشرية، ليس للملائكة، ولا للجن ولا لأحد دخل بها.

      بل يمكن القول: إن الإسلام جاء لينظم علاقات المسلم بأخيه المسلم، وبغيره، كما جاء لينظم علاقة الدولة المسلمة بالدول الأخرى، وجاء أيضا بتنظيم العلاقة بين العبد وربه، وهي علاقة لا يمكن أن تترك بدون رسم وضبط، كما يتعذر أن تترك للإنسان يرسمها كما يشتهي ويريد، وبالتالي فدعوى أن تراثنا الثقافي والفكري والأدبي كله يعمل لرسم العلاقة مع الله تعالى فقط، دعوى تتسم إما بالجهل أو سوء القصد، وإن أفضل من يرد عليها [ ص: 38 ] د.برهان غليون، فهو غير متهم من هذه الجهة، فهو يقول: بصوت عال مرتفع، ويكرر ذلك كثيرا فيقول [3] :

      "إن الجماعات على حسب عطالتها وجمودها يأتي ولعلها بالخوارق والمعجزات، وقد نظر الوعي العربي الحديث إلى العلم والتقنية، فوجد فيهما السحر الشافي لجميع الأمراض، وزاد من قوة هذا السحر تواتر الاختراعات العلمية، التي توحي بإمكانية الحصول على كل شيء دون جهد سوى.. الضغط على الأزرار.. ولما لم يتحقق لنا شيء - مع مرور الوقت- وبقي عالمنا العربي كما هو، لم يجد "الوعي الحديث" تفسيرا لهذا القصور إلا في "التراث"، بحيث صار الاعتقاد بأن التراث هو "القيد"، الذي يحرم الوعي من الانطلاق نحو العصرية والتحضر، فصارت النهضة تعني .. الثورة على التراث، كما أصبح إقصاء التراث من التاريخ وإبعاده هو أساس التقدم وشرطه معا...".

      هذا التصور هو سبب العداء للتراث، وهو تعليل غير مناسب ولا صحيح لحالة إحباط يعاني منها هؤلاء الإخوة، وننصحهم بالبحث عن سبب معقول لما نحن وهم فيه من معاناة وتأخر، لا دخل للتراث فيه. [ ص: 39 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية