الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      حوار حول الثابت والمتغير

      سؤال: هناك من يعتقد بأن أكثر أمور الحياة ثابتة، ومن يرى أن التغيير سنة من سنن الحياة، فكيف نوفق بين هذين الاتجاهين؟

      جواب: في هذه القضية أكثر من اتجاه ومدرسة:

      الأولى: غلبة الثبات، والثاني غلبة المتغيرات، والمدرسة الثالثة: تجمع بين الاثنين، وقد وجدت من يعالج هذا الموضوع جيدا [1] ، فيرى أن سنة التغيير تدرك جل شؤون الوجود الإنساني، ومن هنا تأتي (نسبية العقل والحياة)، ثم يرى أن أكبر وأعتى مشكلات الناس المتدينين قائمة في كونهم يؤمنون بحقيقة مطلقة متسامية ومقدسة، وهم في عيشهم وحياتهم يجدون نسبية في عقولهم وحياتهم، فأساس التضاد قائم، لكن هذه المشكلة الداخلية لن تفضي إلى كارثة، ولكن جزءا من المشكلة يظهر حين تضفى قداسة الدين ومطلقتيه على تصورات واجتهادات الإنسان في فهم النصوص وتفسيرها، مع أن الإنسان مرتبط بفهمه واجتهاده بالمكان والزمان وقابليته للخطأ والصواب، وهنا يتوصل الإنسان إلى أن ما تصوره هو عين الدين، بل قد يخيل لمن حوله أن هذا التصور والاعتقاد هو الدين، وهنا يجري تكفير من يخالفه أو يرميه بالفسق والفجور.

      سؤال: عقل الإنسان محدود بحدود ثقافته وإمكانه، فكيف يدرك المطلق؟

      جواب: إذا كان الاعتقاد بأن العقل الإنساني يتحلى بجملة من الثوابت [ ص: 91 ] والقناعات المطلقة والتي تكون معتبرة مع اختلاف الزمان والمكان، إذا كان ذلك كذلك، فمن المفيد النافع الاعتراف بأن عقل الإنسان مبتلى بالمحدودية، وهو يتأثر بالكثير من المعوقات لتصوراته، كما أن معارفه عرضة للخطأ والصواب، وهو يتغير بشكل دائم، ولا أدل على ذلك من الاختلاف بين أصحاب الديانة الواحدة، بل بين اتباع المذهب الواحد.

      سؤال: ألا يوجد قدر مشترك بين البشر، يمكن أن يجمعهم؟

      لعل من باب الإنصاف الاعتراف بوجود قضايا مشتركة بين البشر، فالكون كتاب الله، يقرؤه الناس على حسب ثقافتهم وخلفيتهم الفكرية والاعتقادية، الكون كتاب مفتوح، والوحي الإلهي كتاب الله المقروء، ولن يغني الكون عن الوحي، وإلا لما احتجنا واحتاج الإنسان إلى الأنبياء، فمازال البشر منذ ألوف السنين يملكون العقل ويستعملونه، لكنه لم يوحد بينهم، ربما إلا في قضايا قليلة.

      سؤال : هل يتطور العقل، أو يمكن أن يتطور عبر خط ثابت؟

      جواب: لأوجست كونت نظرية في تفسير التطور الاجتماعي على أساس تطور العقل عبر خط ثابت، كما يعتقد أن التغير الاجتماعي هو محصلة للنمو الفكري للإنسان، وكل تطور في النظام السياسي أو الديني أو الأخلاقي هو انعكاس لتطور مماثل في الحالة العقلية وأساليب التفكير، التي عبر بها المجتمع، وقد دفعه ذلك لتحديد ثلاث مراحل قطعها العقل الإنساني في مسيرته، ابتداء من المرحلة اللاهوتية إلى الميتافيزيقيا وانتهاء بالوضعية، التي يسودها المنهج [ ص: 92 ] العلمي؛ وهناك ثلاث مراحل كبرى تقابل التطور الفكري للمجتمع، وهي مرحلة الغزو، تليها مرحلة الدفاع، ثم أخيرا تأتي مرحلة الصناعة.

      إن هذا التصور على المستوى العقلي وما يقابله على المستوى الاجتماعي، هو الذي يقدم تفسيرا كاملا للتاريخ الإنساني [2] .

      سؤال: ألا تلاحظ تداخل هذه المراحل ببعضها؟

      جواب: نعم، إن هذه المراحل متداخلة، بل موجودة في المجتمع الواحد، أما ما يقابل ذلك من التطور الفكري، ابتداء من مرحلة الغزو تليها مرحلة الدفاع ثـم مرحلة الصناعة، فنحن نرى اليوم الهجومات تتوالي فتثير دفاعا قويا أو ضعيفا، وتبدو مرحلة الصناعة لا علاقة لها بالغزو ولا بالدفاع، فمن يغزو غيره فهو يثير الدفاع إذا كان بين القوتين نوع من التعادل والتوازن، فإن اختل ذلك فقد لا يعمد المغزو إلى الدفاع بل يستسلم، أما كون هذا التصور يقدم تفسيرا للتاريخ ففيه نظر أيضا.

      ومـا دمنا قـد استـعرضنا فكر "أوجست كونت"، فمن المفيـد أن أتبعه بما يقوله الفيلسوف الاجتماعي البريطاني "بنيامين كيد" فهو يعتبر الدين العامل الحاسم في التطور، وهو بذلك يعارض نظرية "كونت" من أساسها.

      سؤال: من المعروف عن "كيد" أنه يفرق بين النزعات، فما رأيه هنا؟

      جواب: إن "كيد" يعتقد أنه لا يمكن للعقل الإنساني أن يكون سببا في التقدم؛ لأنه يكسب الإنسان نزعة فردية، بينما التطور في جوهره نزعة اجتماعية، [ ص: 93 ] تستهدف مزيدا من الترابط الاجتماعي، ولذا كانت القوة الوحيدة المؤثرة في التقدم هي الدين؛ لأنه يوحد بين الأجيال، ويحقق التكامل بين المجتمعات، وينقذ الحضارات الكبرى، ويمنع التفكك الاجتماعي خلال القرون، كما حدث للمسيحية في القرون الوسطى [3] .. هذا ملخص رأي "كيد" في العقل والدين.

      وأحسب أن أحدا لا يجادل في قيمة الدين وجمعه الناس على اختلاف أجناسهم وعصورهم، ولكن بشرط واحد هو أن تكون العقيدة حية والالتزام صادقا قويا.

      والمثل الجيد لذلك أمتنا، فقد مرت بثلاث مراحل مختلفة، الأولى مرحلة ما قبل الإسلام، قبائل مختلفة لا يجمعها جامع، يغير بعضها على بعض، وتشتعل الحروب لأتفه سبب، والمرحلة الثانية كانت بعد قبول العرب للإسلام، فكون منهم أمة واحدة في دولة واحدة، فدخلت التاريخ، واستلمت الريادة والقيادة بفضل الوضع الجديد، الذي صارت إليه، والمرحلة الثالثة حين بدأ العد التنازلي وتراخى الالتزام بالإسلام، عقيدة وشريعة وحضارة، فخسرنا الريادة والقيادة، بل تفرقنا أيدي سبأ، وخسر أكثرنا استغلاله السياسي، وصرنا هيئة أمم بدل أن نكون أمة واحدة!

      فالدين متى كان قويا، ولو كان محرفا أو منسوخا، فإن قوة الالتزام تجعله فاعلا، فإن كان سليما خاليا من الخطأ لكن الالتزام به كان ضعيفا، فلن يكون له هذا الدور. [ ص: 94 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية