الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      التراث والمشاكل

      إن التراث يمثل جهدنا الفكري والأدبي، وعلى الذين يحاكمونه أن يعلموا ذلك، ولا يطلبوا منه حل إشكالات جديدة لم تعرفها مجتمعاتنا، ولا إبداع قضايا تتعلق بمشكلات التصنيع، فتلك مهمة صعبة، وأخيرا علينا أن نتشجع فنعترف بالفشل كما نباهي بالنجاح، فكثير من الناس إذا نجح في حياته، نسب ذلك لنفسه، فإذا فشل رمى كل ذلك على قدره.

      ود. برهان غليون يشخص هذا الواقع بشجاعة، ويطالب بمحاكمة عقـولنـا، وليـس صب النقمـة علـى تراثنـا فيقول [1] : هـل تقـدر الثقافة العربية - والمقصود ضمنا التراث- على استيعاب الحضارة؟ أو بعبارة أخرى: هل نستطيع أن نستوعب نحن الحضارة، من أفقنا الثقافي؟ هل نستطيع أن نتحضر، ونبقي أنفسنا ذاتا فاعلة في الحضارة، وكيانا يؤثر فيها، بالقدر الذي يتأثر؟ عندئذ يكون سؤالنا: لماذا أخفق العقل الحديث، عقلنا الحي، في تحقيق النهضة الثقافية، وتكون المحاسبة للعقل، لا للتراث؟

      فكما أنه من اللاعقلاني أن نفسر إخفاق تجارب التنمية الاقتصادية وحركة التصنيع بوجود الزراعة أو الاقتصاد الزراعي، التجاري القديم، فمن غير [ ص: 32 ] المعقول أن نفسر إخفاق التنمية الثقافية، والتحرر الفكري بإلقاء التهمة على "التراث"، لكن كما أن إخفاق التصنيع نتج في جزء رئيسي منه عن الاستهتار بالزراعة، فإن إخفاق التحرر العقلي قد نجم عن إهمال قطاعات الثقـافـة الكبرى والأسـاسية لصـالح ما أسميناه بالتعليم "العـقـلاني العـلـمـي"، وفي الواقع فإن المسؤولية هنا وهناك هي مسؤولية العقل والفكر المنظر والموجه للتغيير، لذا نحن نقول:

      حان الوقت للانتقال من "تهديم التراث" إلى محاسبة العقل، وليس التراث، وليس الثقافة، إنه نظام تفكيرنا الراهن، ومحاسبة العقل تعني محاسبة أنفسنا، نحن جيل المتعلمين، الذي أخذ على عاتقه مهمة النهوض والتحرر العقلي، أما محاسبة "التراث" فهي محاسبة لأسلاف لم يدركوا عصرنا، ولا كان بمقدورهم أن يفهموه فيتركوا لنا في تراثهم الحلول، التي نحتاجها، لمواجهة مشاكلنا الراهنة، وما كان عليهم أن يفعلوا ذلك.

      وعندما نقول: حان الوقت للانتقال من نقد التراث إلى نقد العقل، فنحن نقصد أيضا أن العقل هو نحن، لا بمعنى أننا وحدنا العقلانيون، ولكن بمعنى أننا الوحيدون، الذين ما يزال بإمكاننا أن نفكر، أي أن نحكم العقل، لأننا أحياء أما التراث فلا يستطيع ذلك. وليس الذين يدعون للتراث هم من التراث، وأخيرا، فالسؤال الذي يطرحه العقل النقدي هو: لماذا يحسن التعامل مع التراث، كما هو أضعف من أن يستـطيع أن يخرج من التراث الرصيد، الذي يحتاج إليه، للتعامل مع التاريخ، والجماعات البشرية الأخرى؟ باختصار، العيب فيه وليس بالتراث، فهو إنسان لم يملك بعد روح المبادرة والإبداع [ ص: 33 ] والبناء، ومن كان كذلك فلن يستطيع أن يلعب دورا على الساحة الحضارية العالمية، وهو مفلس، لا رأسمال له.

      إن هذا الرأسمال الفكري والروحي، لا يستطيع أحد أن يقترضه من أحد، لا من صندوق النقد الدولي، ولا من سواه، فكل من ليس لديه روح إبداع، فلن يستطيع التعامل مع التراث، وأخيرا، فالتراث لا يغني عن الإبداع، ولكن الإبداع لا يتحقق بدون تراث.

      والحقيقة، فأنا منـدهش من اختـلاق هذه المشـكلة المصطنعة والمدمرة، في الفكر العربي الحديث، فالعالم لا يعرف أمة تشكو من تراثها، وتجعل منه موضوع مناقشة وأخذ ورد كما نفعل نحن!

      إن الأمم كافة تفتخر بتراثها، تدرسه وتقلبه على أوجه مختلفة، تعيش عليه وتستثمره، ليس هناك أمة تطرح على نفسها استبدال التراث بالحاضر، أو نفي التراث أو نفي الحاضر، كما ليس هناك أمة تجعل من التراث ذريعة للكسل والجمود، أو حجة لغياب القدرة على استيعاب التاريخ، الحقيقة المرة هناك أمر "مرضي" في طرح موضوع التراث في العالم العربي، وأعتقد أن السبب لهذا الإشكال هو ضعف العرب اليوم، وضآلتهم الأدبية والروحية، وخمود همتهم، بالمقارنة مع ما يمثله التراث من رمز للمجد والعظمة والقوة، لقد صار التراث مصدر قلق دائم لهؤلاء، ومنبع خجل متراكم في أنفسهم.

      من الحق أن نقول: إنه ما من أمة ورثت تراثا أفضل وأعظم من تراثنا، فـهـو تراث متـكامـل: ديني وعلمي وأدبي، كما هـو سيـاسـي واقـتـصادي، [ ص: 34 ] وهو تراث يجمع بين تدعيم الشخصية القومية، والانفتاح السهل على العالمية والثقافات، والجماعات الأخرى، وهو بهذه الصفات يتجاوز مثلا التراثين الصيني والهندي الكبيرين.

      ربما كان التراث لعظمته وقوته يشكل عبئا بالنسبة لقزامة أهدافنا، وخور إرادتنا اليوم، إنه يشكل حملا ثقيلا علينا؛ لأنه يذكرنا دوما بضرورة العمل، والارتفاع إلى مستوى الحضارة المطلوب.

      إنه يحمل لنا صورا رائعة، لجهود عظيمة للأجداد، تكشف عن علاقتهم بالتاريخ والعالم، وكل ذلك - كما يبدو- يشكل مجال قلق كبير وعميق لبعض النخب الثقافية والاجتماعية؛ لأنها تبدو صغيرة، وغير مطابقة للصورة التاريخية، ومن هنا فلا شرعية لها. إن الإسلام كدين، عقيدة وشريعة، والعربية كلغة، والعروبة كانتماء، أوسع وأكبر من أية دولة أو جماعة، ومن الصعب على أي قطر لوحده أن يحمل ذلك أو ينهض به منفردا.

      سؤال: تصور لا ينقصه الوضوح ولا الحماس، ولكن السؤال: كيف يمكن أن يقتنع به الكل، وأن يتحول من مجرد اعتقاد نظري، إلى واقع عملي؟

      الجواب: المشروعات النهضوية كلها تبدأ أفكارا يبشر بها فرد أو جمـاعة، ثم تصبح سياسة تمثلها دولة أو أكثر، فأوروبا، التي غرقت في حروب لا نهاية لها، ذهب ضحيتها ملايين البشر، خصوصا في الحربين العالميتين، تتحد اليوم اقتصاديا، وتعمل لتكوين وحدة سياسية؛ وهذه الصين تجمع في حدودها الجغرافية أكثر من مليار من البشر، في دولة مركزية واحدة.. فالمشروعات الكبرى تبدأ بفكرة لتنتهي بالتطبيق، ولا شيء يولد كبيرا كاملا. [ ص: 35 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية