الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      العلم وخلفاء الدولة العباسية

      كان خلفاء بني العباس يحبون العلم والعلماء، وكان على رأس متعلميهم ومثقفيـهم الرشيـد والمـأمـون. فـقـد دفـع الرشيد بولديه الأمين والمأمون إلى بـعـض العـلـمـاء والمـؤدبـين لتـعـلـيمهم وتربيتهم، وهذا لا جديد فيه، ولكن الجديد تلك الرسالة، التي كتبها الرشيد إلى عالم من علماء عصره يقول فيها [1] : "يا أحمر - الأحمر النحوي المعروف- إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، وكن له حيث وضعك أمير المؤمنين، أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروه الشعر، وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشـايخ بني هـاشـم إذا دخلـوا عليـه، وارفـع مجـلس القـواد إذا حضـروا مجلسـه، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما معليك بالشدة والغلظة".

      إن الرشيد يرسم سياسة تربوية واضحة كل الوضوح، وأزيد على ما تقدم، مـا ذكره الـكاتب العـبـاسـي المشـهـور، "القـاضـي الفاضـل" فهو يقول [2] [ ص: 64 ] : "ما أعلـم أن لك رحلة قط في طلب العلم إلا للرشيد، فإنه رحل بولديه الأمـين والمأمون لسماع "الموطأ" من الإمام مالك، وعلى سنة الأب سار الابن، وقديما قيل:


      بأبه عدي اقتدى في الكرم ومن يشابه أبه فما ظلم



      فقد نسج المأمون على منوال الرشيد، فراح يوجه أحد أولاده فيقول [3] : اعتبروا في علو الهمة بمن ترون من الوزراء ومن خاصتي، إنهم والله ما بلغوا مراتبهم عندي إلا بأنفسهم، فمن اتبع منكم "صغار الأمور" سيتبعه التصغير والتحقير، وكان ما يفتقد من كبارها أكبر من كثير مما يدرك من صغارها، فترفعوا عن دناءة الهمة، وتفرغوا لجلائل الأمور والتدبير، واستكفوا الثقاة، وكونوا مثل كبار السباع، التي لا تشتغل بصغار الطير والوحش، بل بجليلها وكبـيرها، واعلمـوا أن إقـدامكم إن لـم يتقـدم بـكم فإن قائـدكم لا يقدمـكم، ولا يغني الولي عنكم شيئا ما لم تعطوه حقه".

      تربية وتعليم ألتمس فيها روح الرشيد وتطلعه.

      واستـذكر هنـا ما قـاله حكيم وحليم العرب "الأحنف بن قيس" [4] : "لا يتم أمـر السلـطان إلا بالوزراء والأعـوان، ولا ينفـع الوزراء والأعوان إلا بالمودة والنصيحة ، ولا تنفع المودة والنصيحة إلا بالرأي والعفة" [5] [ ص: 65 ] .

      واستسمح القارئ في أن أعرج على الخواجة "فرانك أنلو"، لأقتطف كلمة من كتابه القيم (القيادة والتغيير)، فقد رتب أفكاره ترتيبا يثـير الدهشـة إذ يـقـول [6] : "راقب أفـكارك فإنـها تتـحـول إلى كلـمـات؛ راقب كلمـاتك فإنـها تصبح أفعالا، راقب أفعالك فإنها تتحول إلى عادات؛ راقب عاداتك فإنها تصبح طباعا، راقب طباعك فإنها ظلال مصيرك"..

      ومن الخـواجـة "أنلو" إلى العبـقري الشجاع "الحسن البصري" فقد كتب إلى الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنهمـا، قائلا: "...من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن نظر إلى العواقب نجا، ومن أطاع هواه ضل، ومن حلم غنم، ومن خاف سلم، ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فـهـم، ومـن فـهـم علم، ومـن علم عمـل، فـإذا زللت فـارجـع، وإذا ندمت فاقلع، وإذا جهلت فاسأل، وإذا غضبت فامسك".

      كلام رجل يعرف ما يريد، يعشق الخير ويدل عليه، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يجامل في الحق، ولا يهادن الباطل، قد جعل الدنيا وما حوت خلفه، واستشرف للجنة وما حوت، يقدر للكلمة قدرها، وللموقف قيمته، عاش رافع الرأس ومات عالي الجبين، منتصب القامة، لم يخف من أحد ولو كان مثل الحجاج في طغيانه وجبروته. فرحمة الله عليك يا شيخ البصرة، فما أحوجنا اليوم إلى أمثالك في حسن الفهم وشجاعة القلب، وحسن التصرف، والإقبال على الله تعالى وما عنده. [ ص: 66 ]

      في حياة أمتنا رجال حازت شعبية لا مثيل لها، يتحدث الذهبي عن أحد شيوخ الحنابلة [7] في القرن الرابع الهجري والذي عاصر حركة القرامطة، الذين ثاروا على الدولة العباسية فعجزت عن السيطرة عليهم، وكان أن توجهوا للكعبة فقتلوا الحجاج واقتلعوا الحجر الأسود وأخذوه، وكان الخليفة العباسي يعتذر بقلة المال لمحاربة القرامطة.. فقال الشيخ "البربهاري": يا قوم، إن كان يحتاج إلى معونة مئة ألف دينار ومئة ألف دينار (يكرر ذلك خمس مرات) عاونته في ذلك.

      ويعلق الفقيه الحنبلي "ابن بطه" فيقول: لو أرادها لحصلها من الناس.

      شعبية لا أشك أن الخليفة العباسي كان يتمنى نصفها أو ربعها. وبالمناسبة فقد رأت أم الرشيد العباسي جمهورا كبيرا يسير خلف أحد العلماء، حتى ثار الغبار، فسألت: من هذا؟ فقيل لها: إنه ابن المبارك، فقالت: هذا والله المجد، لا مجد الرشيد، يسوق الناس بالعصا. [ ص: 67 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية