دفاع عن التراث
أحب أن أصف د. برهان غليون، بأنه من المدافعين عن التراث، يعرف ما يريد، لا يتزيد ولا يبالغ.. وهذه عينة من أقواله [1] :
إن موقفنا من التراث يشكل تعبيرا عن عجزنا عن السيطرة على واقعنا الحاضر، وتحكما بأنفسنا، وقدرتنا على استثمار رأسمالنا، ولأننا نرفض الاعتراف بذلك، ولا نقبل بالتغيير، فنحن نلجأ إلى آليات وهمية، نلقي بمسؤولية الفشل من خلالها على (التراث والماضي والتاريخ والأجداد) ومثلنا مثل من ورث قصرا عظيما عتيقا، فراح يشتم أجداده، لأنهم لم يقوموا بترميمه قبل أن تنتقل ملكيته إليه، ولأننا لم نعرف قيمة القصر، أو بعضنا على الأقل، ولا تعودنا الحياة الرحبة فيه، ولا أحببنا طرازه، صار موقفنا منه موقف أولئك الذين يريدون تفكيك القصر وتهديمه، ربما ليستخدموا حجارته في بناء "أكواخ" على مقاسنا الروحي والإنساني، هكذا أراد له الماديون ليكون ماديا، والليبراليون ليكون ليبراليا، والقوميون ليكون قوميا عروبيا أو إقليميا... فكل حاول أن يأخذ نصيبه منه كما يشاء، وهذا يعني دمار التراث وهدمه بالضرورة، هذا هو موقفنا من التراث، ولو فكرنا بطريقة أخرى، لأدركنا أنه [ ص: 48 ] تراث إنساني، فيه الروحي والعقلي والمادي معا، ذلك لأنه كان يعبر عن مجتمع ومدينة وحضارة، لا يمكن قيامها جميعا دون اجتماع ذلك كله.
إن وراء تهديمنا للتراث يكمن عجزنا عن الإنتاج، وسرعتنا في استهلاك ثروة الأجداد والتي لـم نتـعب في صنعها.. نحن لا نثابر على الشكوى منه إلا لأننا ما نزال في قبضة التراث، وندين له في وجودنا، فنحن لم نستـطـع أن نستقل عنه، ولم نستطع أن نعامله باستقلال وموضوعية؛ لأننا لم نستطع أن نبني رأسمالنا الشخصي العصري، نحن مازلنا إذن معقدين منه، وهذه العقدة تجاه التراث، تفسر صعوبة تعاملنا معه، وصراعنا الدائم على استخدامه واقتسام معانيه، أي تأويله بما يناسب كل طرف منا".
سـؤال: ألا ترى أن "المحـامي" قد غلبه الحماس فراح يتحدث وكأن الأمـة كلها تعادي التراث، وتريد التخلص منه، أو استهلاكه عن طريق التأويل وغيره؟
جواب: للإمام مالك، رحمه الله، كلمة مازال يتناقلها الناس جيلا بعد جيل، فهو يقول: كل أحد يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر، ويشير إلى قبر صاحب الرسالة.
فلا معصوم من الخطأ إلا من عصمه الله تعالى من ذلك، وعموما فكلام العاقل لا يكون كله صوابا دائما؛ لأن ذلك يتطلب العصمة، ولا معصوم اليـوم، كذلك لن يكون كلامه كلـه خـطـأ؛ لأن ذلك يستـدعي الشك في سلامة عقله. [ ص: 49 ]
سؤال: هذه معادلة صعبة، بل معضلة، فما الموقف السليم في ذلك؟
جواب: الموقف السليم أن نعتقد أن لا معصوم بعد وفاة صاحب الرسالة، عليه السلام، وأن الناس العقلاء يخطئون ويصيبون، نقبل صوابهم، ونرفض ونرد خطأهم، لكن...
سؤال: ماذا بعض "لكن" هذه؟
جواب: يجب التنبه، فلا ندعي العصمة لمن نحب، والخطأ المطلق لمن نكره، فقد يتغير الحال، فيصبح من نحب عدوا، ومن نعادي صديقا.
هناك مشكلة أو عقدة أحب أن أطلق عليها "محبة التعميم"، وأكثر من يقع فيها طلبة العلم، في الفهم وفي الاستعمال.
وأذكر واقعة فيها بعض الطرافة: كنت أحدث بعض طلبة الدراسات العليا، عن عقدة التعميم في الفهم حينا والاستعمال أحيانا، فطلبت منهم التفكير في قوله تعـالى، وهو يصف بلقيس، ملكة اليمن، حيث قال: ( وأوتيت من كل شيء .... ) (النمل:23)، قـلت: هـل كانت تمـلك سيـارة أو تلفـزيون، وهل كانت تأكل "الكانتاكي" وتشرب "البيبسي"؟ ضحـك الطـلاب واستـغـربوا وقـالـوا: من أين جـاءك هـذا؟ قلت: من لفظ ( كل شيء ... ، ) فهو عام شامل، تساءلوا: وما الحل؟ قلت: أفهم ( كل شيء ) يكون لمـلك في ذلك الزمان والمكان، فيخصص العام.. قالوا: نريد أمثـلة أخرى، قلت: شخـص يقـول: عنـدنا بقـالة فيها كل شيء، [ ص: 50 ] وصيدلية فيها كل شيء، فهل نجد في البقالة أدوية؟ وهل نجد في الصيدلية سمكا ولحما وخضارا؟
وهـذا مثال، ولكن مختـلف: فلو جاء نص من عهد الخلفاء الراشدين، أو من العصر الأموي يقول: فلان يملك حائطا، أو اشترى حائطا، أو وهب حائطا، فالحائط في هذه النصوص يعني (بستانا)، لكنه فيما بعد صار يطلق على الجدار، إذن لا بد أن نعرف النص وإلى أي عهد يعود، كي نفهمه فهما سليما، فهنا تدخل (العرف) فغير المفهوم من البستان إلى الجدار. وأنتم هنا تقولون: فلان جاء (وصيفا) وتعنون أنه حضر متأخرا، ولو سمع أحد من العرب غيركم ذلك لم يفهم منه إلا أن هذا الشخص يلبس ملابس الصيف، فهذا استعمال أساسه العرف المحلي.
وعـودة إلى د. برهـان غليون فهو يشن حملته ليس ضد الأمة كلها، ولكن ضـد من يتجـهم للتراث، فـيرى فيـه السبـب الأكبر للـتأخر، ولذا يطـالب بشطبه والتخلص منه، بل هو أيضا ينعي على من يتغنى بالتراث، ولا يستفيد منه، والمطلوب، كما يكرر غليون، دراسة التراث ونقده، واستثمار الجيد منه- وما أكثر ذلك - وعزل السيء واستبعاده، فليفهم كلامه في هذه الحدود. [ ص: 51 ]