الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (92) قوله تعالى : لا تثريب عليكم : " عليكم " يجوز أن يكون خبرا لـ " لا " ، و " اليوم " : يحتمل أن يتعلق بما تعلق به هذا الخبر ، أي : لا تثريب مستقر عليكم اليوم . ويجوز أن يكون " اليوم " خبر " لا " و " عليكم " متعلق بما تعلق به هذا الظرف . ويجوز أن يكون " عليكم " صفة لاسم " لا " ، و " اليوم " خبرها أيضا ، ولا يجوز أن يتعلق كل من الظرف والجار بـ " تثريب " لأنه يصير مطولا شبيها بالمضاف ، ومتى كان كذلك أعرب ونون نحو : " لا خيرا من زيد عندك " ، ويزيد عليه الظرف : بأنه يلزم الفصل بين المصدر المؤول بالموصول ومعموله بأجنبي وهو " عليكم " لأنه : إما خبر وإما صفة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد جوز الزمخشري أن يكون الظرف متعلقا بـ " تثريب " فقال : " فإن قلت : بم يتعلق " اليوم " ؟ قلت : بالتثريب أو بالمقدر في " عليكم " من معنى الاستقرار ، أو ب " يغفر " . قلت : فجعله أنه متعلق ب " تثريب " فيه ما تقدم . وقد [ ص: 555 ] أجرى بعضهم الاسم العامل مجرى المضاف لشبهه به فينزع ما فيه من تنوين أو نون ، وجعل الفارسي من ذلك قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2830 - أراني ولا كفران لله أية لنفسي ، لقد طالبت غير منيل

                                                                                                                                                                                                                                      قال : " فأية منصوب بكفران ، أي : لا أكفر الله رحمة لنفسي . ولا يجوز أن تنصب " أية " بأويت مضمرا ؛ لئلا يلزم الفصل بين مفعولي " أرى " بجملتين : أي بـ " لا " وما في حيزها ، وب " أويت " المقدرة . ومعنى أويت رققت . وجعل منه الشيخ جمال الدين بن مالك ما جاء في الحديث " لا صمت يوم إلى الليل " برفع " يوم " على أنه مرفوع بالمصدر المنحل لحرف مصدري وفعل مبني للمفعول ، وفي بعض ما تقدم خلاف لا يليق التعرض له هنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما تعليقه بالاستقرار المقدر فواضح ، ولذلك وقف أكثر القراء عليه ، وابتدأ بـ يغفر الله لكم ، وأما تعليقه بـ " يغفر " فواضح أيضا ولذلك وقف بعض القراء على " عليكم " وابتدأ اليوم يغفر الله لكم ، وجوزوا أن يكون " عليكم " بيانا كـ " لك " في نحو " سقيا لك " ، فعلى هذا تتعلق بمحذوف ، ويجوز أن يكون خبر " لا " محذوفا ، و " عليكم " و " اليوم " كلاهما متعلقان بمحذوف آخر يدل عليه " تثريب " ، والتقدير : لا تثريب يثرب عليكم اليوم ، كما قدروا في لا عاصم اليوم من أمر الله لا عاصم يعصم اليوم . قال الشيخ : " لو قيل به لكان قويا " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد يفرق بينهما بأن هنا يلزم كثرة المجاز ، وذلك أنك تحذف الخبر ، [ ص: 556 ] وتحذف هذا الذي تعلق به الظرف وحرف الجر وتنسب الفعل إليه ؛ لأن التثريب لا يثرب إلا مجازا كقولهم : " شعر شاعر " بخلاف " عاصم يعصم " فإن نسبة الفعل إلى العاصم حقيقة ، فهناك حذف شيء واحد من غير مجاز ، وهنا حذف شيئين مع مجاز .

                                                                                                                                                                                                                                      والتثريب العتب والتأنيب ، وعبر بعضهم عنه بالتعيير ، من عيرته بكذا إذا عبته به ، وفي الحديث : " إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يثرب " ، أي : لا يعير ، وأصله من الثرب وهو ما يغشى الكرش من الشحم ، ومعناه إزالة الثرب كما أن التجليد إزالة الجلد ، فإذا قلت : " ثربت فلانا " فكأنك لشدة عيبتك له أزلت ثربه فضرب مثلا في تمزيق الأعراض .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الراغب : " ولا يعرف من لفظه إلا قولهم " الثرب " وهو شحمة رقيقة ، وقوله تعالى : يا أهل يثرب يصح أن يكون أصله من هذا الباب والياء فيه مزيدة " .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية