الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (75) قوله تعالى : جزاؤه من وجد : أربعة أوجه ، أحدها : أن يكون " جزاؤه " مبتدأ والضمير للسارق ، و " من " شرطية أو موصولة مبتدأ ثان ، والفاء جواب الشرط أو مزيدة في خبر الموصول لشبهه بالشرط ، و " من " وما في حيزها على وجهيها خبر المبتدأ الأول ، قاله ابن عطية ، وهو مردود بعدم رابط بين المبتدأ وبين الجملة الواقعة خبرا عنه ، هكذا رده الشيخ عليه . وليس بظاهر ؛ لأنه يجاب عنه بأن هذه المسألة من باب إقامة الظاهر مقام المضمر ، ويتضح هذا بتقرير الزمخشري قال رحمه الله : " ويجوز أن يكون " جزاؤه " مبتدأ ، والجملة الشرطية كما هي خبره ، على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر . والأصل : جزاؤه من وجد في رحله فهو هو ، فوضع الجزاء موضع " هو " كما تقول لصاحبك : من أخو زيد ؟ فيقول لك : " أخوه من يقعد إلى جنبه ، فهو هو " يرجع الضمير الأول إلى " من " والثاني [إلى] الأخ ، ثم تقول : فهو أخوه ، مقيما للمظهر مقام المضمر " .

                                                                                                                                                                                                                                      والشيخ جعل هذا الذي حكيته عن الزمخشري وجها ثانيا بعد الأول ولم يعتقد أنه هو بعينه ، ولا أنه جواب عما رد به على ابن عطية . ثم قال : " ووضع الظاهر موضع المضمر للربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم والتأويل ، وغير فصيح فيما سوى ذلك نحو : زيد قام زيد ، وينزه عنه القرآن ، قال سيبويه : " لو قلت : " كان زيد منطلقا زيد " لم يكن حد الكلام ، وكان [ ص: 530 ] ههنا ضعيفا ولم يكن كقولك : ما زيد منطلقا هو لأنك قد استغنيت عن إظهاره ، وإنما ينبغي لك أن تضمره " . قلت : ومذهب الأخفش أنه جائز مطلقا وعليه بنى الزمخشري .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد جوز أبو البقاء ما توهم أنه جواب عن ذلك فقال : " والوجه الثالث : أن يكون " جزاؤه " مبتدأ ، و " من وجد " مبتدأ ثان ، و " فهو " مبتدأ ثالث ، و " جزاؤه " خبر الثالث ، والعائد على المبتدأ الأول الهاء الأخيرة ، وعلى الثاني " هو " انتهى . وهذا الذي ذكره أبو البقاء لا يصح ، إذ يصير التقدير : فالذي وجد في رحله جزاء الجزاء ؛ لأنه جعل " هو " عبارة عن المبتدأ الثاني ، وهو من وجد في رحله ، وجعل الهاء الأخيرة وهي التي في " جزاؤه " الأخير عائدة على " جزاؤه " الأول ، وصار التقدير كما ذكرته لك .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة : أن يكون " جزاؤه " مبتدأ ، والهاء تعود على المسروق ، و من وجد في رحله خبره ، و " من " بمعنى الذي ، والتقدير : جزاء الصواع الذي وجد في رحله ، كذلك كانت شريعتهم : يسترق السارق ، فلذلك استفتوا في جزائه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله " فهو جزاؤه " تقرير للحكم أي : فأخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير كقولك : حق زيد أن يكسى ويطعم وينعم عليه ، فذلك حقه " أي فهو حقه لتقرر ما ذكرته من استحقاق وتلزمه ، قاله الزمخشري . ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجه قال : " والتقدير استعباد من وجد في رحله ، وقوله : " فهو جزاؤه " مبتدأ وخبر ، مؤكد لمعنى الأول " .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر الشيخ هذا الوجه ناقلا له عن الزمخشري قال : " وقال معناه [ ص: 531 ] ابن عطية ، إلا أنه جعل القول الواحد قولين ، قال : " ويصح أن يكون " من " خبرا على أن المعنى : جزاء السارق من وجد في رحله ، عائد على " من " ويكون قوله : " فهو جزاؤه " زيادة بيان وتأكيد " ، ثم قال : " ويحتمل أن يكون التقدير : جزاؤه استرقاق من وجد في رحله ، وفيما قبله لا بد من تقديره ؛ لأن الذات لا تكون خبرا عن المصدر ، فالتقدير في القول قبله : جزاؤه أخذ من وجد في رحله أو استرقاقه ، هذا لا بد منه على هذا الإعراب " قلت : وهذا كما قال الشيخ ظاهره أنه جعل القول الواحد قولين .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثالث من الأوجه المتقدمة : أن يكون " جزاؤه " خبر مبتدأ محذوف أي : المسؤول عنه جزاؤه ، ثم أفتوا بقولهم : " من وجد في رحله فهو جزاؤه " كما يقول من يستفتي في جزاء صيد المحرم : جزاء صيد المحرم ، ثم يقول : ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ، قاله الزمخشري . قال الشيخ : " وهو متكلف إذ تصير الجملة من قوله : " المسئول عنه جزاؤه " على هذا التقدير ليس فيه كبير فائدة ؛ إذ قد علم من قوله : " فما جزاؤه " أن الشيء المسئول عنه جزاء سرقته ، فأي فائدة في نطقهم بذلك ؛ وكذلك القول في المثال الذي مثل به من قول المستفتي " .

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : قوله : " ليس فيه كبير فائدة " ممنوع بل فيه فائدة الإضمار المذكور في علم البيان ، وفي القرآن أمثال ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 532 ] الوجه الرابع : أن يكون " جزاؤه " مبتدأ ، وخبره محذوف تقديره : جزاؤه عندنا كجزائه عندكم ، والهاء تعود على السارق أو على المسروق ، وفي الكلام المتقدم دليل عليهما ، ويكون قوله : " من وجد في رحله فهو جزاؤه على ما تقدم في الوجه الذي قبله ، وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء ، ولم يذكره الشيخ ، فقد جعل في الآية الكريمة أربعة أوجه ، وتقدم أن الأول والثاني وجه كما بينته ، فإذا ضممنا هذا الوجه الأخير الذي بدأ به أبو البقاء إلى الأربعة التي ذكرها الشيخ صارت خمسة ، ولكن لا تحقيق لذلك ، وكذلك إذا التفتنا إلى قول ابن عطية في جعله القول الواحد قولين تصير ستة في اللفظ ، فإذا حققتها لم تجئ إلا أربعة كما ذكرتها لك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : كذلك نجزي الظالمين محل الكاف نصب : إما على أنها نعت لمصدر محذوف ، وإما حال من ضميره ، أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية