الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (273) قوله تعالى: للفقراء : في تعلق هذا الجار خمسة أوجه، أحدها: - وهو الظاهر - أنه متعلق بفعل مقدر يدل عليه سياق الكلام، واختلفت عبارات المعربين فيه، فقال مكي - ولم يذكر غيره -: "أعطوا للفقراء" وفي هذا نظر، لأنه يلزم زيادة اللام في أحد مفعولي أعطى، ولا تزاد اللام إلا لضعف العامل: "إما بتقدم معموله كقوله تعالى: "للرؤيا تعبرون"، وإما لكونه فرعا نحو قوله تعالى: "فعال لما يريد" ويبعد أن يقال: لما أضمر العامل ضعف فقوي باللام، على أن بعضهم يجيز ذلك وإن لم يضعف العامل، وجعل منه "ردف لكم"، وسيأتي بيانه في موضعه [ ص: 616 ] إن شاء الله تعالى: وقدره أبو البقاء: "اعجبوا للفقراء" وفيه نظر، لأنه لا دلالة من سياق الكلام على العجب. وقدره الزمخشري: "اعمدوا أو اجعلوا ما تنفقون" والأحسن من ذلك ما قدره مكي، لكن فيه ما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن هذا الجار خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الصدقات أو النفقات التي تنفقونها للفقراء، وهو في المعنى جواب لسؤال مقدر، كأنهم لما حثوا على الصدقات قالوا: فلمن هي؟ فأحثوا بأنها لهؤلاء، وفيها فائدة بيان مصرف الصدقات. وهذا اختيار ابن الأنباري قال: "كما تقول: "عاقل لبيب"، وقد تقدم وصف رجل، أي: الموصوف عاقل، وتكتبون على الأكياس: "ألفان ومئتان"، أي: الذي في الكيس ألفان. وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      1081 - تسألني عن زوجها أي فتى خب جروز وإذا جاع بكى

                                                                                                                                                                                                                                      يريد: هو خب.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أن اللام تتعلق بقوله: "إن تبدوا الصدقات" وهو مذهب القفال، واستبعده الناس لكثرة الفواصل.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: أنه متعلق بقوله: "وما تنفقوا من خير" وفي هذا نظر من حيث إنه يلزم فيه الفصل بين فعل الشرط وبين معموله بجملة الجواب، فيصير نظير قولك: "من يكرم أحسن إليه زيدا". وقد صرح بالمنع من ذلك - معللا بما ذكرته - الواحدي فقال: "ولا يجوز أن يكون العامل في هذه اللام "تنفقوا" [ ص: 617 ] الأخير في الآية المتقدمة، لأنه لا يفصل بين العامل والمعمول بما ليس منه كما لا يجوز: "كانت زيدا الحمى تأخذ".

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: أن "للفقراء" بدل من قوله: "فلأنفسكم"، وهذا مردود قال الواحدي وغيره: "لأن بدل الشيء من غيره لا يكون إلا والمعنى مشتمل عليه، وليس كذلك ذكر النفس ههنا، لأن الإنفاق من حيث هو عائد عليها، وللفقراء من حيث هو واصل إليهم، وليس من باب "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا" لأن الأمر لازم للمستطيع خاصة" قلت: يعني أن الفقراء ليست هي الأنفس ولا جزءا منها ولا مشتملة عليها، وكأن القائل بذلك توهم أنه من باب قوله تعالى: "ولا تقتلوا أنفسكم" في أحد التأويلين.

                                                                                                                                                                                                                                      والفقير: قيل: أصله من "فقرته الفاقرة" أي: كسرت فقار ظهره الداهية. قال الراغب: "وأصل الفقير: هو المكسور الفقار، يقال: "فقرته الفاقرة" أي: الداهية تكسر الفقار، و "أفقرك الصيد فارمه" أي أمكنك من فقاره. وقيل: هو من الفقرة أي الحفرة، ومنه قيل لكل حفرة يجتمع فيها الماء: فقير. وفقرت للغسيل حفرت له حفرة: غرسته فيها. قال:


                                                                                                                                                                                                                                      1082 - ما ليلة الفقير إلا شيطان      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      قيل: هو اسم بئر. وفقرت الخرز: ثقبته. وقال الهروي: يقال "فقره" [ ص: 618 ] إذا أصاب فقار ظهره نحو: رأسه أي: أصاب رأسه، وبطنه: أي أصاب بطنه. وقال الأصمعي: "الفقر: أن يحز أنف البعير حتى يخلص الحز إلى العظم، ثم يلوى عليه جرير يذلل به الصعب من الإبل، ومنه قيل: عمل به الفاقرة". والفقرات - بكسر الفاء وفتح القاف -: جمع فقرة: الأمور العظام، ومنه حديث السعي: "فقرات ابن آدم ثلاث: يوم ولد ويوم يموت، ويوم يبعث" والفقر: بضم الفاء وفتح القاف - جمع فقرة وهي الحز وخرم الخطم، ومنه قول أبي زياد: "يفتقر الصعب ثلاث فقر في خطمه" ومنه حديث سعد: "فأشار إلى فقر في أنفه" أي شق وحز. وقد تقدم الكلام في الإحصار، والفرق بين فعل وأفعل منه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "في سبيل" يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بالفعل قبله فيكون ظرفا له. والثاني: أن يكون متعلقا بمحذوف على أنه حال من مرفوع "أحصروا" أي: مستقرين في سبيل الله. وقدره أبو البقاء بمجاهدين في سبيل الله" فهو تفسير معنى لا إعراب، لأن الجار لا يتعلق إلا بالكون المطلق.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "لا يستطيعون" في هذه الجملة احتمالان، أظهرهما: أنها [ ص: 619 ] حال، وفي صاحبها وجهان، أحدهما: أنه "الفقراء" وثانيهما: أنه مرفوع "أحصروا". والاحتمال الثاني: أن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب. و "ضربا" مفعول به، وهو هنا السفر للتجارة، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      1083 - لحفظ المال أيسر من بقاه     وضرب في البلاد بغير زاد

                                                                                                                                                                                                                                      يقال: ضربت في الأرض ضربا ومضربا أي: سرت.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "يحسبهم" يجوز في هذه الجملة ما جاز فيما قبلها من الحالية والاستئناف، وكذلك ما بعدها. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: "يحسب" - حيث ورد - بفتح السين والباقون بكسرها. فأما القراءة الأولى فجاءت على القياس، لأن قياس فعل بكسر العين يفعل بفتحها لتتخالف الحركتان فيخف اللفظ، وهي لغة تميم والكسر لغة الحجاز، وبها قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شذت ألفاظ أخر جاءت في الماضي والمضارع بكسر العين منها نعم ينعم، وبئس يبئس، ويئس ييئس، ويبس ييبس من اليبوسة، وعمد يعمد، وقياسها كلها الفتح، واللغتان فصيحتان في الاستعمال، والقارئ بلغة الكسر اثنان من كبار النحاة أبو عمرو - وكفى به - والكسائي، وقارئا الحرمين نافع وابن كثير. والجاهل هنا: اسم جنس لا يراد به واحد بعينه. و "أغنياء" هو المفعول الثاني.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من التعفف" في "من" هذه ثلاثة أوجه، أحدها: أنها سببية، أي: سبب حسبانهم أغنياء تعففهم فهو مفعول من أجله، وجره بحرف السبب هنا واجب لفقد شرط من شروط النصب وهو اتحاد الفاعل، وذلك أن فاعل [ ص: 620 ] الحسبان الجاهل، وفاعل التعفف هم الفقراء، ولو كان هذا المفعول له مستكملا لشروط النصب لكان الأحسن جره بالحرف لأنه معرف بأل، وقد تقدم أن جر هذا النوع أحسن من نصبه، نحو: جئت للإكرام، وقد جاء نصبه، قال:


                                                                                                                                                                                                                                      1084 - لا أقعد الجبن عن الهيجاء     ولو توالت زمر الأعداء

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنها لابتداء الغاية، والمعنى أن محسبة الجاهل غناهم نشأت من تعففهم لأنه لا يحسب غناهم غنى تعفف، إنما يحسبه غنى مال، فقد نشأت محسبته من تعففهم، وهذا على أن تعففهم تعفف تام. والثالث: أنها لبيان الجنس، وإليه نحا ابن عطية، قال: "يكون التعفف داخلا في المحسبة، أي: إنه لا يظهر لهم سؤال بل هو قليل، فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عنه، فـ "من" لبيان الجنس على هذا التأويل، قال الشيخ: "وليس ما قاله من أن "من" هذه في هذا المعنى لبيان الجنس المصطلح عليه، لأن لها اعتبارا عند القائل بهذا المعنى وهو أن تتقدر "من" بموصول، وما دخلت عليه يجعل خبر مبتدأ محذوف كقوله: "فاجتنبوا الرجس من الأوثان" يصح أن يقال: الذي هو الأوثان، ولو قلت هنا: "يحسبهم الجاهل أغنياء الذي هو التعفف" لم يصح هذا التقدير، وكأنه سمى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس أي: بينت بأي جنس وقع غناهم، أي غناهم بالتعفف لا غنى بالمال، فسمى "من" الداخلة على ما يبين جهة الغنى [ ص: 621 ] ببيان الجنس، وليس المصطلح عليه كما قدمناه، وهذا المعنى يؤول إلى أن "من" سببية، لكنها تتعلق بأغنياء لا بـ يحسبهم. انتهى".

                                                                                                                                                                                                                                      وتتعلق "من" على الوجهين الأولين بـ يحسبهم. قال أبو البقاء: "ولا يجوز أن تتعلق بمعنى "أغنياء" لأن المعنى يصير إلى ضد المقصود وذلك أن معنى الآية أن حالهم يخفى على الجاهل بهم فيظنهم أغنياء، ولو علقت "من" بأغنياء صار المعنى أن الجاهل يظن أنهم أغنياء ولكن بالتعفف، والغني بالتعفف فقير في المال". انتهى، وما قاله أبو البقاء يحتمل بحثا.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما على الوجه الثالث - وهو كونها لبيان الجنس - فقد صرح الشيخ بتعلقها بأغنياء، لأن المعنى يعود إليه، ولا يجوز تعلقها في هذا الوجه بالحسبان، وعلى الجملة فكونها لبيان الجنس قلق المعنى.

                                                                                                                                                                                                                                      والتعفف: تفعل من العفة، وهي ترك الشيء، والإعراض عنه مع القدرة على تعاطيه، قال رؤبة:


                                                                                                                                                                                                                                      1085 - فعف عن أسرارها بعد الغسق     ولم يدعها بعد فرك وعشق

                                                                                                                                                                                                                                      وقال عنترة:


                                                                                                                                                                                                                                      1086 - يخبرك من شهد الوقيعة أنني     أغشى الوغى وأعف عند المغنم

                                                                                                                                                                                                                                      ومنه: "عفيف الإزار" كناية عن حصانته. وعرف التعفف لأنه سبق منهم مرارا فصار كالمعهود، ومتعلق التعفف، محذوف اختصارا. أي: عن السؤال، والأحسن ألا يقدر.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 622 ] قوله: "تعرفهم بسيماهم" السيما - العلامة ويجوز مدها وإذا مدت فالهمزة فيها منقلبة عن حرف زائد للإلحاق: إما واو، وإما ياء، فهي كعلباء ملحقة بسرداح، فالهمزة للإلحاق لا للتأنيث وهي منصرفة لذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      و "سيما" مقلوبة قدمت عينها على فائها لأنها مشتقة من الوسم فهي بمعنى السمة أي العلامة، فلما وقعت الواو بعد كسرة قلبت ياء، فوزن سيما: عفلا، كما يقال اضمحل، وامضحل، [و] "وخيمة" و "خامة"، وله جاه ووجه، أي: وجاهة.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الآية طباق في موضعين، أحدهما: "أحصروا" مع قوله: "ضربا في الأرض"، والثاني قوله "أغنياء" مع قوله "للفقراء" نحو: "أضحك وأبكى"" و أمات وأحيا". ويقال "سيميا" بياء بعد الميم، وتمد كالكيمياء. وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      1087 - غلام رماه الله بالحسن يافعا     له سيمياء لا تشق على البصر

                                                                                                                                                                                                                                      والباء تتعلق بـ "تعرفهم" ومعناها السببية، أي: إن سبب معرفتك إياهم هي سيماهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "إلحافا" في نصبه ثلاثة أوجه، أحدها: نصبه على المصدر بفعل مقدر أي: يلحفون إلحافا، والجملة المقدرة حال من فاعل "يسألون" والثاني: أن يكون مفعولا من أجله، أي: لا يسألون لأجل الإلحاف. والثالث: أن يكون مصدرا في موضع الحال تقديره: لا يسألون ملحفين. [ ص: 623 ] واعلم أن العرب إذا نفت الحكم عن محكوم عليه فالأكثر في لسانهم نفي ذلك القيد، نحو: "ما رأيت رجلا صالحا"، الأكثر على أنك رأيت رجلا ولكن ليس بصالح، ويجوز أنك لم تر رجلا البتة لا صالحا ولا طالحا، فقوله: "لا يسألون الناس إلحافا" المفهوم أنهم يسألون لكن لا بإلحاف، ويجوز أن يكون المعنى: أنهم لا يسألون ولا يلحفون، والمعنيان منقولان في التفسير. والأرجح الأول عندهم، ومثله في المعنى: "ما تأتينا فتحدثنا" يجوز أنه يأتيهم ولا يحدثهم، ويجوز أنه لا يأتيهم ولا يحدثهم، انتفى السبب وهو الإتيان فانتفى المسبب وهو الحديث.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد شبه الزجاج - رحمه الله تعالى - معنى هذه الآية الكريمة بمعنى بيت امرئ القيس وهو قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1088 - على لاحب لا يهتدى بمناره     إذا سافه العود النباطي جرجرا

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: "تشبيه الزجاج إنما هو في مطلق انتفاء الشيئين أي: لا سؤال ولا إلحاف، وكذلك هذا: لا منار ولا هداية، لا أنه مثله في خصوصية النفي، إذ كان يلزم أن يكون المعنى: لا إلحاف فلا سؤال، وليس تركيب الآية على هذا المعنى، ولا يصح: لا إلحاف فلا سؤال لأنه لا يلزم من نفي الخاص نفي العام، كما لزم من نفي المنار نفي الهداية التي هي من بعض لوازمه، وإنما يؤدي معنى النفي على طريقة النفي في البيت أن لو كان [ ص: 624 ] التركيب: "لا يلحفون الناس سؤالا" لأنه يلزم من نفي السؤال نفي الإلحاف، إذ نفي العام يدل على نفي الخاص. فتلخص من هذا كله أن نفي الشيئين: تارة تدخل حرف النفي على شيء فتنتفي جميع عوارضه، وتنبه على بعضها بالذكر لغرض ما، وتارة تدخل حرف النفي على عارض من عوارضه، والمقصود نفيه فتنتفي لنفيه عوارضه".

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: قد سبقه ابن عطية إلى هذا فقال: "تشبيهه ليس مثله خصوصية النفي، لأن انتفاء المنار في البيت يدل على نفي الهداية، وليس انتفاء الإلحاح يدل على انتفاء السؤال." وأطال ابن عطية في تقرير هذا وجوابه ما تقدم: من أن المراد نفي الشيئين لا بالطريق المذكور في البيت، وكان الشيخ قد قال قبل ما حكيته عنه آنفا: "ونظير هذا: ما تأتينا فتحدثنا" فعلى الوجه الأول يعني نفي القيد وحده: ما تأتينا محدثا، إنما تأتي ولا تحدث، وعلى الوجه الثاني يعني نفي الحكم بقيده بـ "ما يكون منك إتيان فلا يكون حديث"، وكذلك هذا: لا يقع منهم سؤال البتة فلا يقع إلحاح، ونبه على نفي الإلحاح دون غير الإلحاح لقبح هذا الوصف، ولا يراد به نفي هذا الوصف وحده ووجود غيره; لأنه كان يصير المعنى الأول، وإنما يراد بنفي هذا الوصف نفي المترتبات على المنفي الأول، لأنه نفى الأول على سبيل العموم فتنتفي مترتباته، كما أنك إذا نفيت الإتيان فانتفى الحديث انتفى جميع مترتبات الإتيان من المجالسة والمشاهدة والكينونة في محل واحد، ولكن نبه بذكر مترتب واحد لغرض ما على ذكر سائر المترتبات" قلت: وهو تقرير لما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 625 ] وأما الزمخشري فكأنه لم يرتض تشبيه الزجاج، فإنه قال: "وقيل: هو نفي للسؤال، والإلحاف جميعا كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      على لاحب لا يهتدى بمناره      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      يريد نفي المنار والاهتداء به".

                                                                                                                                                                                                                                      وطريق أبي إسحاق الزجاج هذه قد قبلها الناس ونصروها واستحسنوا تنظيرها بالبيت كالفارسي وأبي بكر بن الأنباري، قال أبو علي: "لم يثبت في قوله: "لا يسألون الناس إلحافا" مسألة فيهم، لأن المعنى: ليس منهم مسألة فيكون منهم إلحاف، ومثل ذلك قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      1089 - لا يفزع الأرنب أهوالها     ولا ترى الضب بها ينجحر

                                                                                                                                                                                                                                      أي: ليس فيها أرنب فيفزع لهولها ولا ضب فينجحر، وليس المعنى أنه ينفي الفزع عن الأرنب والانجحار عن الضب. وقال أبو بكر: "تأويل الآية: لا يسألون البتة فيخرجهم السؤال في بعض الأوقات إلى الإلحاف; فجرى هذا مجرى قولك: فلان لا يرجى خيره أي: لا خير عنده البتة فيرجى، وأنشد قول امرئ القيس:


                                                                                                                                                                                                                                      1090 - وصم صلاب ما يقين من الوجى     كأن مكان الردف منه على رال

                                                                                                                                                                                                                                      أي: ليس بهن وجى فيشتكين من أجله، وقال الأعشى:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 626 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1091 – لا يغمز الساق من أين ولا وصب     ولا يعض على شرسوفه الصفر

                                                                                                                                                                                                                                      معناه: ليس بساقه أين ولا وصب فيغمزها. وقال الفراء قريبا منه فإنه قال: "نفى الإلحاف عنهم وهو يريد جميع وجوه السؤال كما تقول في الكلام: "قل ما رأيت مثل هذا الرجل" ولعلك [لم تر قليلا ولا كثيرا من أشباهه]. جعل أبو بكر الآية عند بعضهم من باب حذف المعطوف، وأن التقدير: لا يسألون للناس إلحافا ولا غير إلحاف. كقوله تعالى: "تقيكم الحر" أي: والبرد.

                                                                                                                                                                                                                                      والإلحاف والإلحاح واللجاج والإحفاء، كله بمعنى، يقال: ألحف وألح في المسألة: إذا لج فيها. وفي الحديث: "من سأل وله أربعون فقد ألحف"، واشتقاقه من اللحاف، لأنه يشتمل الناس بمسألته ويعمهم، كما يشتمل اللحاف من تحته ويغطيه، ومنه قول ابن أحمر يصف ذكر نعام يحضن بيضه بجناحيه ويجعل جناحه لها كاللحاف:


                                                                                                                                                                                                                                      1092 - يظل يحفهن بقفقفيه     ويلحفهن هفهافا ثخينا

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر في المعنى:


                                                                                                                                                                                                                                      1093 - ثم راحوا عبق المسك بهم     يلحفون الأرض هداب الأزر

                                                                                                                                                                                                                                      أي: يلبسونها الأرض كإلباس اللحاف للشيء. وقيل: بل اشتقاق [ ص: 627 ] اللفظة من "لحف الجبل" وهو المكان الخشن، ومجازه أن السائل لكثرة سؤاله كأنه استعمل الخشونة في مسألته، وقيل: بل هي "من لحفني فلان" أي أعطاني فضل ما عنده، وهو قريب من معنى الأول.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية