الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ فروع ] القضاء مظهر لا مثبت ويتخصص بزمان ومكان وخصومة حتى لو أمر السلطان بعد سماع الدعوى بعد خمسة عشر سنة فسمعها لم ينفذ .

قلت : فلا تسمع الآن بعدها إلا بأمر [ ص: 420 ] إلا في الوقف والإرث ووجود عذر شرعي وبه أفتى المفتي أبو السعود فليحفظ

التالي السابق


( قوله : القضاء مظهر لا مثبت ) لأن الحق المحكوم به كان ثابتا والقضاء أظهره والمراد ما كان ثابتا ولو تقديرا كالقضاء بشهادة الزور كما مر بيانه في تعريف القضاء عن ابن الغرس . مطلب القضاء يقبل التقييد والتعليق

( قوله : ويتخصص بزمان ومكان وخصومة ) عزاه في الأشباه إلى الخلاصة وقال في الفتح من أول كتاب القضاء : الولاية تقبل التقييد والتعليق بالشرط كقوله : إذا وصلت إلى بلدة كذا فأنت قاضيها وإذا وصلت إلى مكة فأنت أمير الموسم ، والإضافة : كجعلتك قاضيا في رأس الشهر ، والاستثناء منها كجعلتك قاضيا إلا في قضية فلان ولا تنظر في قضية كذا ، والدليل على جواز تعليق الإمارة وإضافتها قوله صلى الله عليه وسلم حين بعث البعث إلى مؤتة وأمر عليهم زيد بن حارثة ( { إن قتل زيد بن حارثة فجعفر أميركم وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة } ) وهذه القصة مما اتفق عليها جميع أهل السير والمغازي ا هـ . مطلب في عدم سماع الدعوى بعد خمس عشرة سنة .

( قوله : بعد خمس عشرة سنة ) المناسب خمس عشرة بتذكير الأول وتأنيث الثاني لكون المعدود مؤنثا وهو سنة وأجاب ط بأنه على تأويل السنة بالعام أو الحول .

( قوله : فلا تسمع الآن بعدها ) أي لنهي السلطان عن سماعها بعدها فقد قال السيد الحموي في حاشية الأشباه : أخبرني أستاذي شيخ الإسلام يحيى أفندي الشهير بالمنقاري أن السلاطين الآن يأمرون قضاتهم في جميع ولاتهم أن لا يسمعوا دعوى بعد مضي خمس عشرة سنة سوى الوقف والإرث ا هـ . ونقل في الحامدية فتاوى من المذاهب الأربعة بعدم سماعها بعد النهي المذكور . [ ص: 420 ] مطلب هل يبقى النهي بعد موت السلطان

لكن هل يبقى النهي بعد موت السلطان الذي نهى ، بحيث لا يحتاج من بعده إلى نهي جديد ؟ أفتى في الخيرية بأنه لا بد من تجديد النهي ، ولا يستمر النهي بعده ، وبأنه إذا اختلف الخصمان في أنه منهي أو غير منهي فالقول للقاضي ما لم يثبت المحكوم عليه النهي وأطال في ذلك وأطاب فراجعه . وأما ما ذكره السيد الحموي أيضا من أنه قد علم من عادتهم يعني سلاطين آل عثمان نصرهم الرحمن من أنه إذا تولى سلطان عرض عليه قانون من قبله وأخذ أمره باتباعه فلا يفيد هنا ; لأن معناه أن يلتزم قانون أسلافه بأن يأمر بما أمروا به وينهى عما نهوا عنه ولا يلزم منه أنه إذا ولى قاضيا ولم ينهه عن سماع هذه الدعوى أن يصير قاضيه منهيا بمجرد ذلك وإنما يلزم منه أنه إذا ولاه ينهاه صريحا ليكون عاملا بما التزمه من القانون كما اشتهر أنه حين يوليه الآن يأمره في منشوره بالحكم بأصح أقوال المذهب كعادة من قبله ، وتمام الكلام على ذلك في كتابنا تنقيح الحامدية فراجعه وأطلنا الكلام عليه أيضا في كتابنا تنبيه الولاة والحكام .

( قوله : إلا في الوقف والإرث ووجود عذر شرعي ) استثناء الإرث موافق لما مر عن الحموي ولما في الحامدية عن فتاوى أحمد أفندي المهمنداري مفتي دمشق أنه كتب على ثلاثة أسئلة أنه تسمع دعوى الإرث ولا يمنعها طول المدة ويخالفه ما في الخيرية حيث ذكر أن المستثنى ثلاثة : مال اليتيم والوقف والغائب ومقتضاه أن الإرث غير مستثنى فلا تسمع دعواه بعد هذه المدة ، وقد نقل في الحامدية عن المهمنداري أيضا أنه كتب على سؤال آخر فيمن تركت دعواها الإرث بعد بلوغها خمس عشرة سنة ، بلا عذر أن الدعوى لا تسمع إلا بأمر سلطاني ونقل أيضا مثله فتوى تركية عن المولى أبي السعود ، وتعريبها إذا تركت دعوى الإرث بلا عذر شرعي خمس عشرة سنة ، فهل لا تسمع ؟ الجواب : لا تسمع ا هـ اعترف الخصم بالحق ، ونقل مثله شيخ مشايخنا التركماني عن فتاوى علي أفندي مفتي الروم ونقل مثله أيضا شيخ مشايخنا السائحاني عن فتاوى عبد الله أفندي مفتي الروم ، وهذا الذي رأينا عليه عمل من قبلنا ، فالظاهر أنه ورد نهي جديد بعدم سماع دعوى الإرث ، والله سبحانه أعلم . [ تنبيهات ]

الأول : قد استفيد من كلام الشارح أن عدم سماع الدعوى بعد هذه المدة إنما هو للنهي عنه من السلطان فيكون القاضي معزولا عن سماعها لما علمت من أن القضاء يتخصص ; فلذا قال إلا بأمر أي فإذا أمر بسماعها بعد هذه المدة تسمع ، وسبب النهي قطع الحيل والتزوير ، فلا ينافي ما في الأشباه وغيرها من أن الحق لا يسقط بتقادم الزمان ا هـ ; ولذا قال في الأشباه أيضا : ويجب عليه سماعها ا هـ : أي يجب على السلطان الذي نهى قضاته عن سماع الدعوى بعد هذه المدة أن يسمعها بنفسه ، أو يأمر بسماعها ، كي لا يضيع حق المدعي ، والظاهر أن هذا حيث لم يظهر من المدعي أمارة التزوير ، وفي بعض نسخ الأشباه : ويجب عليه عدم سماعها وعليه فالضمير يعود للقاضي المنهي عن سماعها ، لكن الأول هو المذكور في معين المفتي .

الثاني : أن النهي حيث كان للقاضي لا ينافي سماعها من المحكم ، بل قال المصنف في معين المفتي : إن القاضي : لا يسمعها من حيث كونه قاضيا فلو حكمه الخصمان في تلك القضية التي مضى عليها المدة المذكورة ، فله أن يسمعها .

الثالث : عدم سماع القاضي لها إنما هو عند إنكار الخصم فلو اعترف تسمع كما علم مما قدمناه من فتوى المولى أبي السعود أفندي ; إذ لا تزوير مع الإقرار . [ ص: 421 ]

الرابع : عدم سماعها حيث تحقق تركها هذه المدة فلو ادعى في أثنائها لا يمنع بل يسمع دعواه ثانيا ما لم يكن بين الدعوى الأولى والثانية هذه المدة ، ورأيت بخط شيخ مشايخنا التركماني في مجموعته أن شرطها أي شرط الدعوى مجلس القاضي ، فلا تصح الدعوى في مجلس غيره كالشهادة ، تنوير وبحر ودرر قال : واستفيد منه جواب حادثة الفتوى وهي أن زيدا ترك دعواه على عمرو مدة خمس عشرة سنة ، ولم يدع عند القاضي بل طالبه بحقه مرارا في غير مجلس القاضي ، فمقتضى ما مر لا تسمع لعدم شرط الدعوى ، فليكن على ذكر منك ، فإنه تكرر السؤال عنها وصريح فتوى شيخ الإسلام علي أفندي : أنه إذا ادعى عند القاضي مرارا ، ولم يفصل القاضي الدعوى ومضت المدة المزبورة تسمع ; لأنه صدق عليه أنه لم يتركها عند القاضي ا هـ ما في المجموعة ، وبه أفتى في الحامدية ثم لا يخفى أن ترك الدعوى إنما يتحقق بعد ثبوت حق طلبها ، فلو مات زوج المرأة أو طلقها بعد عشرين سنة مثلا من وقت النكاح ، فلها طلب مؤخر المهر ; لأن حق طلبه إنما ثبت لها بعد الموت أو الطلاق لا من وقت النكاح ، ومثله ما يأتي فيما لو أخر الدعوى هذه المدة لإعسار المديون ، ثم ثبت يساره بعدها ، وبه يعلم جواب حادثة الفتوى سئلت عنها حين كتابتي لهذا المحل في رجل له كدك دكان وقف مشتمل على منجور وغيره وضعه من ماله في الدكان بإذن ناظر الوقف ومن نحو أربعين سنة وتصرف فيه هو وورثته من بعده في هذه المدة . ثم أنكره الناظر الآن

وأنكر وضعه بالإذن ، وأراد الورثة إثباته وإثبات الإذن بوضعه ، والذي ظهر لي في الجواب سماع البينة في ذلك ; لأنه حيث كان في يدهم ويد مورثهم هذه المدة بدون معارض لم يكن ذلك تركا للدعوى . ونظير ذلك ما لو ادعى زيد على عمرو بدار في يده فقال له عمرو : كنت اشتريتها منك من عشرين سنة ، وهي في ملكي إلى الآن وكذبه زيد في الشراء فتسمع بينة عمرو على الشراء المذكور بعد هذه المدة ; لأن الدعوى توجهت عليه الآن وقبلها كان واضع اليد بلا معارض ، فلم يكن مطالبا بإثبات ملكيتها فلم يكن تاركا للدعوى ومثله فيما يظهر أن مستأجر دار الوقف يعمرها بإذن الناظر ، وينفق عليها مبلغا من الدراهم يصير دينا له على الوقف ، ويسمى في زماننا مرصدا ، ولا يطالب به ما دام في الدار فإذا خرج منها فله الدعوى على الناظر بمرصده المذكور وإن طالت مدته حيث جرت العادة بأنه لا يطالب به قبل خروجه ، ولا سيما إذا كان في كل سنة يقتطع بعضه من أجرة الدار فليتأمل .

الخامس : استثناء الشارح العذر الشرعي أعم مما في الخيرية من الاقتصار على استثناء الوقف ومال اليتيم والغائب ; لأن العذر يشمل ما لو كان المدعي حاكما ظالما كما يأتي وما لو كان ثابت الإعسار في هذه المدة ثم أيسر بعدها فتسمع كما ذكره في الحامدية .

السادس : استثناء مال اليتيم مقيد بما إذا لم يتركها بعد بلوغه هذه المدة وبما إذا لم يكن له ولي يأتي ، وفي الحامدية لو كان أحد الورثة قاصرا والباقي بالغين تسمع الدعوى بالنظر إلى القاصر بقدر ما يخصه دون البالغين . مطلب إذا ترك الدعوى ثلاثا وثلاثين سنة لا تسمع .

السابع : استثنوا الغائب والوقف ولم يبينوا له مدة فتسمع من الغائب ولو بعد خمسين سنة ويؤيده قوله : في الخيرية من المقرر أن الترك لا يتأتى من الغائب له أو عليه لعدم تأتي الجواب منه بالغيبة ، والعلة خشية التزوير ولا يتأتى بالغيبة الدعوى عليه ، فلا فرق فيه بين غيبة المدعي والمدعى عليه ا هـ . وكذا الظاهر في باقي الأعذار أنه لا مدة لها ; لأن بقاء العذر وإن طالت مدته يؤكد عدم التزوير بخلاف الوقف ، فإنه لو طالت مدة دعواه بلا عذر ثلاثا وثلاثين سنة [ ص: 422 ] لا تسمع كما أفتى به في الحامدية أخذا مما ذكره في البحر في كتاب الدعوى عن ابن الغرس عن المبسوط إذا ترك الدعوى ثلاثا وثلاثين ، ولم يكن مانع من الدعوى ثم ادعى لا تسمع دعواه ; لأن ترك الدعوى من التمكن يدل على عدم الحق ظاهرا ا هـ وفي جامع الفتوى عن فتاوى العتابي قال المتأخرون من أهل الفتوى : لا تسمع الدعوى بعد ست وثلاثين سنة إلا أن يكون المدعي غائبا أو صبيا أو مجنونا وليس لهما ولي أو المدعى عليه أميرا جائرا ا هـ . ونقل ط عن الخلاصة لا تسمع بعد ثلاثين سنة ا هـ . ثم لا يخفى أن هذا ليس مبنيا على المنع السلطاني بل هو منع من الفقهاء فلا تسمع الدعوى بعده وإن أمر السلطان بسماعها . مطلب باع عقارا وأحد أقاربه حاضر لا تسمع دعواه .

الثامن : سماع الدعوى قبل مضي المدة المحدودة مقيد بما إذا لم يمنع منه مانع آخر يدل على عدم الحق ظاهرا ، لما سيأتي في مسائل شتى آخر الكتاب من أنه لو باع عقارا أو غيره وامرأته أو أحد أقاربه حاضر يعلم به ، ثم ادعى ابنه مثلا أنه ملكه لا تسمع دعواه وجعل سكوته كالإفصاح قطعا للتزوير والحيل بخلاف الأجنبي فإن سكوته ولو جارا لا يكون رضا إلا إذا سكت الجار وقت البيع والتسليم وتصرف المشتري فيه زرعا وبناء فلا تسمع دعواه على ما عليه الفتوى قطعا للأطماع الفاسدة ا هـ . وأطال في تحقيقه في الخيرية من كتاب الدعوى ، فقد جعلوا مجرد سكوت القريب أو الزوجة عند البيع مانعا من دعواه بلا تقييد باطلاعه على تصرف المشتري كما أطلقه في الكنز والملتقى ، وأما دعوى الأجنبي ولو جارا فلا بد في منعها من السكوت بعد الاطلاع على تصرف المشتري ، ولم يقيدوه بمدة ، وقد أجاب المصنف في فتاواه فيمن له بيت يسكنه مدة تزيد على ثلاث سنين ، ويتصرف فيه هدما وعمارة مع اطلاع جاره على ذلك بأنه لا تسمع دعوى الجار عليه البيت أو بعضه على ما عليه الفتوى وسيأتي تمام الكلام على ذلك آخر الكتاب في مسائل شتى قبيل الفرائض إن شاء الله تعالى فانظره هناك فإنه مهم .




الخدمات العلمية