الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إن ادعى ) المديون ( الفقر ) إذ الأصل العسرة ( إلا أن يبرهن غريمه على غناه ) أي على قدرته على الوفاء ولو باقتراض أو بتقاضي غريمه ( فيحبسه ) حينئذ ( بما رأى ) ولو يوما ، وهو الصحيح [ ص: 385 ] بل في شهادات الملتقط قال أبو حنيفة : إذا كان المعسر معروفا بالعسرة لم أحبسه ، وفي الخانية ولو فقره ظاهرا سأل عنه عاجلا وقيل بينته على إفلاسه وخلى سبيله نهر ، وفي البزازية قال المديون حلفه أنه ما يعلم أني معسر أجابه القاضي ، فإن حلف حبسه بطلبه وإن نكل خلاه وأقره المصنف وغيره . قلت : قدمنا أن الرأي لمن له ملكة الاجتهاد فتنبه ( ثم ) بعد حبسه بما يراه لو حاله مشكلا عند القاضي وإلا عمل بما ظهر بحر ، واعتمده المصنف ( سأل عنه ) احتياطا لا وجوبا ومن جيرانه ويكفي عدل بغيبة دائن ، وأما المستور فإن وافق قوله رأي القاضي عمل به وإلا لا ، أنفع الوسائل بحثا ولا يشترط حضرة الخصم ولا لفظ الشهادة إلا إذا تنازعا في اليسار والإعسار قهستاني .

[ ص: 386 ] قلت : لكنها بالإعسار للنفي وهي ليست بحجة ; ولذا لم يجب السؤال ، أنفع الوسائل فتنبه ( فإن لم يظهر له مال خلاه ) بلا كفيل إلا في ثلاث مال يتيم ووقف وإذا كان الدائن غائبا ثم لا يحبسه ثانيا لا للأول ولا لغيره حتى يثبت غريمه غناه بزازية وفي القنية برهن المحبوس على إفلاسه فأراد الدائن إطلاقه قبل تفليسه فعلى القاضي القضاء به حتى لا يعيده الدائن ثانيا .

[ ص: 387 ] فرع ] أحضر المحبوس الدين وغاب ربه يريد تطويل حبسه إن علمه وقدره أخذه أو كفيلا وخلاه ، خانية وفي الأشباه لا يجوز إطلاق المحبوس إلا برضا خصمه إلا إذا ثبت إعساره أو أحضر الدين للقاضي في غيبة خصمه .

التالي السابق


( قوله : إن ادعى الفقر ) قيد لقوله لا يحبس في غيره .

( قوله : إذ الأصل العسرة ) لأن الآدمي يولد فقيرا لا مال له ، والمدعي يدعي أمرا عارضا فكان القول لصاحبه مع يمينه ما لم يكذبه الظاهر ، إلا أن يثبت المدعي بالبينة أن له مالا بخلاف ما تقدم ; لأن الظاهر يكذبه زيلعي .

( قوله : أي على قدرته على الوفاء ) أي ليس المراد بالغنى ملك النصاب ; لأنه يحبس فيما دونه أفاده في الفتح .

( قوله : ولو باقتراض ) في البزازية لو وجد المديون من يقرضه فلم يفعل فهو ظالم ، وفي كراهية القنية لو كان للمديون حرفة تفضي إلى قضاء دينه فامتنع منها لا يعذر ا هـ ، وكل من الفرعين ينبغي تخريجه على ما يقبل فيه قوله فإذا ادعى في المهر المؤجل مثلا أنه معسر ووجد من يقرضه ، أو كان له حرفة توفيه فلم يفعل حبسه الحاكم ; لأن الحبس جزاء الظلم ، وأما ما لا يقبل فيه قوله : فظلمه فيه ثابت قبل وجود من يقرضه نهر .

( قوله : أو بتقاضي غريمه ) بأن كان له مال على غريم موسر . قال في البزازية : فإن حبس غريمه الموسر لا يحبس ، وفيها ولو كان للمحبوس مال في بلد آخر يطلقه بكفيل ا هـ .

( قوله : فيحبسه حينئذ ) أي حين إذ قام البرهان على غناه في هذا القسم ، وبمجرد دعوى المدعي غناه في القسم الأول كما مر .

( قوله : ولو يوما ) أخذه في البحر من ظاهر كلامهم .

( قوله : هو الصحيح ) صرح به في الهداية ; لأن المقصود من الحبس الضجر والتسارع لقضاء الدين وأحوال الناس فيه متفاوتة ومقابله رواية تقديره بشهرين [ ص: 385 ] أو ثلاثة وفي رواية بأربعة وفي رواية بنصف حول .

( قوله : لم أحبسه ) أي ولو كان الدين ثمنا أو قرضا كما هو ظاهر الإطلاق ، وهو أيضا مقتضى عبارة شرح الاختيار التي قدمناها .

( قوله : ولو فقره ظاهرا إلخ ) أفاد أن قوله فيحبسه بما يرى إنما هو حيث كان حاله مشكلا كما نبه عليه الشارح بعده وفي شرح أدب القضاء قال محمد بعد ذكر التقدير هذا إذا أشكل على أمره أفقير أم غني وإلا سألت عنه عاجلا ، ويعني إذا كان ظاهر الفقر أقبل البينة على الإفلاس وأخلي سبيله ا هـ .

( قوله : قال المديون ) أي بما أصله ثمن ونحوه ; إذ القسم الثاني القول فيه للمديون أنه معسر ، فلا يحتاج إلى تحليف الدائن نعم يتأتى فيه أيضا إذا أثبت يساره لكنه بعيد إذ لا يحلف المدعي بعد البينة تأمل .

( قوله : قلت قدمنا إلخ ) تقييد لقول المصنف فيحبسه بما رأى وقدم الشارح ذلك عند قول المصنف قبل هذا الفصل ، ولا يخير إذا لم يكن مجتهدا وقد تبع الشارح في هذا القهستاني قال ح أقول مثل هذا لا يتوقف على كون القاضي مجتهدا كما لا يخفى ا هـ أي فإن ما يقتضيه حال ذلك المديون من قدر مدة حبسه التي يظهر فيها أنه لو كان له مال لأظهره يستوي في علم ذلك المجتهد وغيره بدون توقف على العلم باللغة والكتاب والسنة متنا وسندا كما لا يخفى ، فالظاهر حمل ما قالوه فيما يفوض إلى رأي القاضي من الأحكام والله سبحانه أعلم .

( قوله : ثم بعد حبسه إلخ ) الظرف متعلق بقول المصنف الآتي سأل عنه وقوله : لو حاله مشكلا قيد لقوله حبسه بما يراه وقوله : وإلا أي إن لم يكن مشكلا بأن كان فقره ظاهرا وهذا كله يغني عنه ما قبله .

( قوله : احتياطا لا وجوبا ) قال شيخ الإسلام ; لأن الشهادة بالإعسار شهادة بالنفي فكان للقاضي أن لا يسأل ويعمل برأيه ، ولكن لو سأل مع هذا كان أحوط زيلعي . وقال في الفتح : وإلا فبعد مضي المدة التي يغلب ظن القاضي أنه لو كان له مال دفعه وجب إطلاقه إن لم يقم المدعي بينة يساره من غير حاجة إلى سؤال .

( قوله : ويكفي عدل ) والاثنان أحوط وكيفيته أن يقول المخبر إن حال المعسرين في نفقته وكسوته وحاله ضيقة وقد اختبرنا في السر والعلانية بحر عن البزازية وقيد سماع هذه الشهادة بما بعد الحبس ومضي المدة ; لأنها قبل الحبس لا تقبل في الأصح كما يأتي ، وكذا قبل المدة التي يراها القاضي كما سنذكره .

( قوله : بغيبة دائن ) أي يكفي ذلك في غيبة الدائن ، فلا يشترط لسماعها حضرته لكن إذا كان غائبا سمعها وأطلقه بكفيل كما في البحر عن البزازية وسيأتي مع زيادة ما لو كان الدين لوقف أو يتيم .

( قوله : وأما المستور إلخ ) فيه كلام يأتي قريبا .

( قوله : ولا يشترط حضرة الخصم ) يغني عنه قوله بغيبة دائن .

( قوله : إلا إذا تنازعا إلخ ) قال في النهر وقيد في النهاية الاكتفاء بالواحدة بما إذا لم تقع خصومة ، فإن كانت كأن ادعى المحبوس الإعسار ورب الدين يساره فلا بد من إقامة البينة على الإعسار ا هـ ، ومثله في البحر ، قلت : وهذا مشكل فإن ما مر من الاكتفاء بعدل لا شك أنه عند المنازعة إذ لو اعترف المدعي بفقر المحبوس أو اعترف المحبوس بغناه لم يحتج إلى سؤال ولا إلى إخبار ، ثم رأيت في أنفع الوسائل نقل عبارة النهاية المارة بزيادة [ ص: 386 ] وهي فإن شهدا بأنه معسر خلى سبيله ولا تكون هذه شهادة على النفي فإن الإعسار بعد اليسار أمر حادث فتكون شهادة بأمر حادث لا بالنفي ا هـ ، فأفاد أن هذه الخصومة بإعسار حادث يعني إذا أراد حبسه فيما يكون القول فيه للمدعى بيساره أو في القسم الآخر وبرهن على يساره بإرث من أبيه منذ شهر مثلا ، وهو ادعى إعسارا حادثا فلا بد فيه من نصاب الشهادة ; لأنها شهادة صحيحة لوقوعها على أمر حادث لا على النفي بخلاف الشهادة على أنه معسر ، فإنها قامت على نفي اليسار الذي يحبس بسببه لا على إعسار حادث بعده أو المراد إقامة البينة على إعساره بعد حبسه قبل تمام المدة التي يظهر فيها للقاضي عسرته ، لكن سيأتي أن سماع البينة قبل المدة خلاف ظاهر الرواية فتأمل .

( قوله : قلت لكنها إلخ ) استدراك على التقييد بالعدل في قوله : ويكفي عدل فقد نقل في أنفع الوسائل عن الخلاصة أنه يسأل عنه الثقات والواحد يكفي ، ولا يشترط لفظ الشهادة ثم نقل عبارة شيخ الإسلام المارة ثم قال فقوله : أي شيخ الإسلام هذا ليس بواجب وهذا ليس بحجة وأن للقاضي أن لا يسأل يؤيد قولنا إنه لا يشترط العدالة في هذا الواحد ; لأنها تشترط في أمر واجب أو في إثبات حجة شرعية ، وإلا فلا فائدة في اشتراطها ; لأن القاضي له إخراجه بلا سؤال أحد عنه إلخ وأراد بذلك الرد على الزيلعي حيث قيد بالعدل في قوله : والعدل الواحد يكفي وإثبات أن المستور الواحد يكفي دون الفاسق ، ثم قال والأحسن عندي أن يقال إن كان رأي القاضي موافقا لقول هذا المستور في العسرة يقبل وإلا بأن لم يكن للقاضي رأي في عسرة المحبوس أو يسر به فيشترط كون المخبر عدلا ا هـ واستحسنه في النهر وغيره . قلت : قد رجع إلى ما قاله الزيلعي من حيث لا يشعر وذلك أنه إذا كان للقاضي رأي في عسرته بأن ظهر له حاله لا يحتاج إلى شاهد أصلا ، بل له إخراجه بلا سؤال ، والأحوط السؤال من عدل ليتحقق به ما رآه القاضي ولا يكون بمجرد رأيه ، ويظهر من كلام شيخ الإسلام المار وكذا من كلام الفتح الذي ذكرناه بعده أنه لا يلزمه العمل بقول ذلك العدل إذا خالف رأيه ، وإذا وافق قول المخبر رأي القاضي لا شك أنه يعمل به سواء كان المخبر عدلا أو فاسقا أو مستورا فعلم أن كلام الزيلعي محمول على ما إذا لم يكن للقاضي رأي بدليل قوله في شرح أدب القضاء وإذا مضت تلك المدة واحتاج القاضي إلى معرفة حاله سأل الثقات من جيرانه وأصدقائه إلخ ، فقوله واحتاج دليل أنه لا رأي له فقد ظهر أنه في هذه الصورة تشترط العدالة كما اعترف به الطرسوسي وفي الصورة الأولى لا تشترط عدالة ولا غيرها وإلا لم يكن للقاضي العمل برأيه وإخراج المحبوس بلا سؤال ، وبه ظهر سقوط هذا البحث من أصله فافهم واغتنم هذا التحرير .

( قوله : ولذا لم يجب السؤال ) أي سؤال القاضي عن حال المحبوس وإنما يسأل احتياطا كما مر .

( قوله : فإن لم يظهر له مال خلاه ) أي أطلقه من الحبس جبرا على الدائن نهر إن إطلاقه بإخبار واحد لا يكون ثبوتا ، حتى لا يجوز أن يقول هذا القاضي ثبت عندي أنه معسر ، ولا ينقل ثبوته إلى قاض آخر بل هذا يختص بهذا القاضي ، أنفع الوسائل ، وأقره في البحر والنهر .

( قوله : ووقف ) ذكره في البحر بحثا إلحاقا باليتيم .

( قوله : فعلى القاضي القضاء به ) أي إذا أبى المحبوس أن يخرج حتى يقضي بإفلاسه كما في البحر وغيره .

( قوله : حتى لا يعيده الدائن ثانيا ) أي قبل ظهور غناه بحر ، والظاهر أن المراد أن لا يعيده قاض آخر ; لأن الأول ظهر له حاله فكيف يعيده إلى الحبس بل لا يعيده لا لهذا الدائن ولا لغيره حتى يثبت غناه كما هو صريح عبارة البزازية [ ص: 387 ] المذكورة وأيضا إذا ثبت إعساره الحادث بشهادة تامة بعد خصومة كما مر فليس لقاض آخر حبسه ثانيا فيما يظهر ; لأنه يكون ثبوتا فيتعدى بخلاف ما إذا أطلقه بإخبار واحد تأمل وقدم الشارح في الوقف في صور من ينتصب خصما عن غيره عد منها المديون إذا أثبت إعساره في وجه أحد الغرماء .

( قوله : يريد تطويل حبسه ) الظاهر أنه قيد باعتبار العادة ، وإلا ففي غيبته تطويل حبسه وإن لم يرد ذلك ; ولذا لم يقيد بذلك في عبارة الأشباه الآتية أفاد ط .

( قوله : وقدره ) بالنصب عطفا على الضمير المنصوب في علمه .

( قوله : أو كفيلا ) أي بالمال أو النفس .

( قوله : إلا إذا ثبت إعساره ) المناسب إسقاط إلا وعطفه بأو والمراد بالثبوت الظهور ولو برأي القاضي أو إخبار عدل كما مر




الخدمات العلمية