الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر خروج أبي ركوة على الحاكم بمصر

في هذه السنة ظفر الحاكم بأبي ركوة ، ونحن نذكر هاهنا خبره أجمع .

[ ص: 550 ] كان أبو ركوة اسمه الوليد وإنما كني أبا ركوة لركوة كان يحملها في أسفاره ، سنة الصوفية ، وهو من ولد هشام بن عبد الملك بن مروان ، ويقرب في النسب من المؤيد هشام بن الحاكم الأموي ، صاحب الأندلس ، وإن المنصور بن أبي عامر لما استولى على المؤيد وأخفاه عن الناس ، تتبع أهله ومن يصلح منهم للملك ، فطلبه ، فقتل البعض ، وهرب البعض .

وكان أبو ركوة ممن هرب ، وعمره حينئذ قد زاد على العشرين سنة ، وقصد مصر ، وكتب الحديث ، ثم سار إلى مكة واليمن ، ( وعاد إلى مصر ودعا بها ) إلى القائم ، فأجابه بنو قرة وغيرهم .

وسبب استجابتهم أن الحاكم بأمر الله كان قد أسرف في مصر في قتل القواد ، وحبسهم ، وأخذ أموالهم ، وسائر القبائل معه في ضنك وضيق ، ويودون خروج الملك عن يده ، وكان الحاكم في الوقت الذي دعا أبو ركوة بني قرة قد آذاهم ، وحبس منهم جماعة من أعيانهم ، وقتل بعضهم ، فلما دعاهم أبو ركوة انقادوا له .

وكان بين بني قرة وبين زناتة حروب ودماء ، فاتفقوا على الصلح ، ومنع أنفسهم من الحاكم ، فقصد بني قرة ، وفتح يعلم الصبيان الخط ، وتظاهر بالدين والنسك ، وأمهم في صلواتهم ، فشرع في دعوتهم إلى ما يريد ، فأجابوه وبايعوه ، واتفقوا عليه ، وعرفهم حينئذ نفسه ، وذكر لهم أن عندهم في الكتب أنه يملك مصر وغيرها ، ووعدهم ومناهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا . فاجتمعت بنو قرة وزناتة على بيعته ، وخاطبوه بالإمامة ، وكانوا بنواحي برقة . فلما سمع الوالي ببرقة خبره كتب إلى الحاكم ( ينهيه إليه ) ، ويستأذنه في قصدهم وإصلاحهم ، فأمره بالكف عنهم واطراحهم .

[ ص: 551 ] ثم إن أبا ركوة جمعهم وسار إلى برقة ، واستقر بينهم على أن يكون الثلث من الغنائم له ، والثلثان لبني قرة وزناتة ، فلما قاربها خرج إليه واليها ، فالتقوا ، فانهزم عسكر الحاكم ، وملك أبو ركوة برقة ، وقوي هو ومن معه بما أخذوا من الأموال والسلاح وغيره ، ونادى بالكف عن الرعية والنهب ، وأظهر العدل وأمر بالمعروف .

فلما وصل المنهزمون إلى الحاكم عظم عليه الأمر ، وأهمته نفسه وملكه ، وعاود الإحسان إلى الناس ، والكف عن أذاهم ، وندب عسكرا نحو خمسة آلاف فارس وسيرهم ، وقدم عليهم قائدا يعرف بينال الطويل ، وسيره ، فبلغ ذات الحمام ، وبينها وبين برقة مفازة فيها منزلان ، لا يلقى السالك الماء إلا في آبار عميقة بصعوبة وشدة . فسير أبو ركوة قائدا في ألف فارس ، وأمرهم بالمسير إلى ينال ومن معه ومطاردتهم قبل الوصول إلى المنزلين المذكورين ، وأمرهم إذا عادوا أن يغوروا الآبار ، ففعلوا ذلك وعادوا ، فحينئذ سار أبو ركوة في عساكره ولقيهم وقد خرجوا من المفازة على ضعف وعطش ، فقاتلهم ، فاشتد القتال ، فحمل ينال على عسكر أبي ركوة ، فقتل منهم خلقا كثيرا ، وأبو ركوة واقف لم يحمل هو ولا عسكره ، فاستأمن إليه جماعة كثيرة من كتامة لما نالهم من الأذى والقتل من الحاكم ، وأخذوا الأمان لمن بقي من أصحابهم ، ولحقهم الباقون ، فحمل حينئذ بهم على عساكر الحاكم ، فانهزمت وأسر ينال وقتل ، وأسر أكثر عسكره ، وقتل منهم خلق كثير ، وعاد إلى برقة وقد امتلأت أيديهم من الغنائم .

وانتشر ذكره ، وعظمت هيبته ، وأقام ببرقة ، وترددت سراياه إلى الصعيد وأرض مصر ، وقام الحاكم من ذلك وقعد ، وسقط في يده ، وندم على ما فرط ، وفرح جند مصر وأعيانها ، وعلم الحاكم ذلك ، فاشتد قلقه ، وأظهر الاعتذار عن الذي فعله .

وكتب الناس إلى أبي ركوة يستدعونه ، وممن كتب إليه الحسين بن جوهر المعروف بقائد القواد ، فسار حينئذ عن برقة إلى الصعيد ، وعلم الحاكم ، فاشتد خوفه ، وبلغ الأمر كل مبلغ ، وجمع عساكره واستشارهم ، وكتب إلى الشام يستدعي [ ص: 552 ] العساكر فجاءته ، وفرق الأموال ، والدواب ، والسلاح ، وسيرهم وهم اثنا عشر ألف رجل بين فارس وراجل ، سوى العرب ، واستعمل عليهم الفضل بن عبد الله . فلما قاربوا أبا ركوة لقيهم في عساكره ، ورام مناجزة المصريين ، والفضل يحاجزه ويدافع ، ويراسل أصحاب أبي ركوة يستميلهم ويبذل لهم الرغائب ، فأجابه قائد كبير من بني قرة يعرف بالماضي ، وكان يطالعه بأخبار القوم وما هم عازمون ، فيدبر الفضل أمره على حسب ما يعلمه منه .

وضاقت الميرة على العساكر فاضطر الفضل إلى اللقاء ، فالتقوا واقتتلوا بكوم شريك ، فقتل بين الفريقين قتلى كثيرة ، ورأى الفضل من جمع أبي ركوة ما هاله ، وخاف المناجزة فعاد إلى عسكره .

وراسل بنو قرة العرب الذين في عسكر الحاكم يستدعونهم إليهم ويذكرونهم أعمال الحاكم بهم ، فأجابوهم ، واستقر الأمر أن يكون الشام للعرب ويصير لأبي ركوة ومن معه مصر ، وتواعدوا ليلة يسير فيها أبو ركوة إلى الفضل ، فإذا وصل إليه انهزمت العرب ، ولا يبقى دون مصر مانع . فكتب الماضي إلى الفضل بذلك ، فلما كانت ليلة الميعاد جمع الفضل رؤساء العرب ليفطروا عنده ، وأظهر أنه صائم ، وطاولهم الحديث ، وتركهم في خيمة واعتزلهم ، ووصى أصحابه بالحذر ، ورام العرب العود إلى خيامهم ، فعللهم وطاولهم ، ثم أحضر الطعام وأحضرهم ، فأكلوا وتحدثوا .

وسير الفضل سرية إلى طريق أبي ركوة ، فلقوا العسكر الوارد من عنده ، فاقتتلوا ، ووصل الخبر إلى العسكر وارتج ، وأراد العرب الركوب ، فمنعهم ، وأرسل إلى أصحابهم من العرب فأمرهم بالركوب والقتال ، ولم يكن عندهم علم بما فعل رؤساؤهم ، فركبوا واشتد القتال ، ورأى بنو قرة الأمر على خلاف ما قرروه .

ثم ركب الفضل ومعه رؤساء العرب ، وقد فاتهم ما عزموا عليه ، فباشروا الحرب وغاصوا فيها ، وورد أبو ركوة مددا لأصحابه ، فلما رآه الفضل رد أصحابه وعاد إلى المدافعة .

[ ص: 553 ] وجهز الحاكم عسكرا آخر ، أربعة آلاف فارس ، وعبروا إلى الجيزة ، فسمع أبو ركوة بهم ، فسار مجدا في عسكره ليوافقهم عند مصر ، وضبط الطرق لئلا يسمع الفضل ، ولم يكن الماضي يكاتبه ، فساروا ، وأرسل إليه من الطريق يعرفه الخبر ، وقطع أبو ركوة مسيرة خمس ليال في ليلتين ، وكبسوا عسكر الحاكم بالجيزة ، وقتلوا نحو ألف فارس ، وخاف أهل مصر ، ولم يبرز الحاكم من قصره ، وأمر الحاكم من عنده من العساكر بالعبور إلى الجيزة ، ورجع أبو ركوة فنزل عند الهرمين ، ثم انصرف من يومه ، وكتب الحاكم إلى الفضل كتابا ظاهرا يقول فيه : إن أبا ركوة انهزم من عساكرنا ، ليقرأه على القواد ، وكتب إليه سرا يعلمه الحال . فأظهر الفضل البشارة بانهزام أبي ركوة تسكينا للناس .

ثم سار أبو ركوة إلى موضع يعرف بالسبخة ، كثير الأشجار ، وتبعه الفضل ، وكمن أبو ركوة بين الأشجار ، وطارد عسكر الفضل ، ورجع عسكره القهقرى ليستجروا عسكر الفضل ويخرج الكمين عليهم ، فلما رأى الكمناء رجوع عسكر أبي ركوة ظنوها الهزيمة لا شك فيها ، فولوا يتبعونهم ، وركبهم أصحاب الفضل ، وعلوهم بالسيوف فقتل منهم ألوف كثيرة ، وانهزم أبو ركوة ومعه بنو قرة وساروا إلى حللهم ، فلما بلغوها ثبطهم الماضي عنه فقالوا له : قد قاتلنا معك ، ولم يبق فينا قتال ، فخذ لنفسك وانج; فسار إلى بلد النوبة ، فلما بلغ إلى حصن يعرف بحصن الجبل للنوبة أظهر أنه رسول من الحاكم إلى ملكهم ، فقال له صاحب الحصن : الملك عليل ، ولا بد من استخراج أمره في مسيرك إليه .

وبلغ الفضل الخبر ، فأرسل إلى صاحب القلعة بالخبر على حقيقته ، فوكل به من يحفظه ، وأرسل إلى الملك بالحال ، وكان ملك النوبة قد توفي وملك ولده فأمر بأن يسلم إلى نائب الحاكم ، فتسلمه رسول الفضل وسار به ، فلقيه الفضل وأكرمه وأنزله في مضاربه ، وحمله إلى مصر فأشهر بها ، وطيف به .

وكتب أبو ركوة إلى الحاكم رقعة يقول فيها : يا مولانا الذنوب عظيمة ، وأعظم [ ص: 554 ] منها عفوك ، والدماء حرام ما لم يحللها سخطك ، وقد أحسنت وأسأت وما ظلمت إلا نفسي ، وسوء عملي أوبقني ، وأقول :


فررت فلم يغن الفرار ، ومن يكن مع الله لم يعجزه في الأرض هارب     ووالله ما كان الفرار لحاجة
، سوى فزع الموت الذي أنا شارب     وقد قادني جرمي إليك برمتي
، كما خر ميت في رحا الموت سارب     وأجمع كل الناس أنك قاتلي
، فيا رب ظن ربه فيك كاذب     وما هو إلا الانتقام ، وينتهي
، وأخذك منه واجبا لك واجب



ولما طيف به ألبس طرطورا ، وجعل خلفه قرد يصفعه ، كان معلما بذلك ، ثم حمل إلى ظاهر القاهرة ليقتل ويصلب ، فتوفي قبل وصوله ، فقطع رأسه وصلب ، وبالغ الحاكم في إكرام الفضل إلى حد أنه عاده في مرضة مرضها دفعتين ، فاستعظم الناس ذلك ، ثم إنه عمل في قتل الفضل لما عوفي فقتله .

التالي السابق


الخدمات العلمية