الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر فتح رمطة والحرب بين المسلمين والروم بصقلية

قد ذكرنا سنة إحدى وخمسين [ وثلاثمائة ] فتح طبرمين وحصر رمطة والروم فيها ، [ ص: 251 ] فلما رأى الروم ذلك ، خافوا وأرسلوا إلى ملك القسطنطينية يعلمونه الحال ، ويطلبون منه أن ينجدهم بالعساكر ، فجهز إليهم عسكرا عظيما يزيدون على أربعين ألف مقاتل ، وسيرهم في البحر ، فوصلت الأخبار إلى الأمير أحمد أمير صقلية ، فأرسل إلى المعز بإفريقية يعرفه ذلك ويستمده ، ويسأل إرسال العساكر إليه سريعا ، وشرع هو في إصلاح الأسطول ، والزيادة فيه ، وجمع الرجال المقاتلة في البر والبحر .

وأما المعز فإنه جمع الرجال ، وحشد وفرق فيهم الأموال الجليلة ، وسيرهم مع الحسن بن علي والد أحمد ، فوصلوا إلى صقلية في رمضان ، وسار بعضهم إلى الذين يحاصرون رمطة ، فكانوا معهم على حصارها .

فأما الروم فإنهم وصلوا أيضا إلى صقلية ، ونزلوا عند مدينة مسيني في شوال ، وزحفوا منها بجموعهم التي لم يدخل صقلية مثلها إلى رمطة ، فلما سمع الحسن بن عمار مقدم الجيش الذين يحاصرون رمطة ذلك ، جعل عليها طائفة من عسكره يمنعون من يخرج منها ، وبرز بالعساكر للقاء الروم وقد عزموا على الموت ، ووصل الروم وأحاطوا بالمسلمين .

ونزل أهل رمطة إلى من يليهم ليأتوا المسلمين من ظهورهم ، فقاتلهم الذين جعلوا هناك لمنعهم ، وصدوهم عما أرادوا ، وتقدم الروم إلى القتال ، وهم مدلون بكثرتهم وبما معهم من العدد وغيرها ، والتحم القتال وعظم الأمر على المسلمين ، وألحقهم العدو بخيامهم ، وأيقن الروم بالظفر ، فلما رأى المسلمون عظم ما نزل بهم ، اختاروا الموت ، ورأوا أنه أسلم لهم ، وأخذوا بقول الشاعر :


تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما

.

فحمل بهم الحسن بن عمار أميرهم ، وحمي الوطيس حينئذ ، وحرضهم على قتال الكفار ، وكذلك فعل بطارقة الروم ، حملوا وحرضوا عساكرهم .

وحمل منويل مقدم الروم ، فقتل في المسلمين ، ( فطعنه المسلمون ) ، فلم يؤثر فيه لكثرة ما عليه من اللباس ، فرمى بعضهم فرسه فقتله ، واشتد القتال عليه ، فقتل هو [ ص: 252 ] وجماعة من بطارقته ، فلما قتل انهزم الروم أقبح هزيمة ، وأكثر المسلمون فيهم القتل ، ووصل المنهزمون إلى جرف خندق عظيم كالحفرة ، فسقطوا فيها من خوف السيف ، فقتل بعضهم بعضا حتى امتلأت ، وكانت الحرب من بكرة إلى العصر ، وبات المسلمون يقاتلونهم في كل ناحية ، وغنموا من السلاح والخيل ، وصنوف الأموال ما لا يحد .

وكان في جملة الغنيمة سيف هندي عليه مكتوب : هذا سيف هندي ، وزنه مائة وسبعون مثقالا ، طالما ضرب به بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إلى المعز مع الأسرى والرءوس ، وسار من سلم من الروم إلى ريو .

وأما أهل رمطة فإنهم ضعفت نفوسهم ، وكانت الأقوات قد قلت عندهم ، فأخرجوا من فيها من الضعفاء ، وبقي المقاتلة ، فزحف إليهم المسلمون وقاتلوهم إلى الليل ، ( ولزموا ) القتال في الليل أيضا ، وتقدموا بالسلاليم فملكوها عنوة ، وقتلوا من فيها ، وسبوا الحرم والصغار ، وغنموا ما فيها ، وكان شيئا كثيرا عظيما ، ورتب فيها من المسلمين من يعمرها ويقيم فيها .

ثم إن الروم تجمع من سلم منها ، وأخذوا معهم من في صقلية وجزيرة ريو منهم ، وركبوا مراكبهم يحفظون نفوسهم ، فركب الأمير أحمد في عساكره وأصحابه في المراكب أيضا ، وزحف إليهم في الماء وقاتلهم ، واشتد القتال بينهم ، وألقى جماعة من المسلمين نفوسهم في الماء ، وخرقوا كثيرا من المراكب التي للروم ، ( فغرقت ، وكثر القتل في الروم ) ، فانهزموا لا يلوي أحد على أحد ، وسارت سرايا المسلمين في مدائن الروم ، فغنموا منها ، فبذل أهلها لهم من الأموال ، وهادنوهم ، وكان ذلك سنة أربع وخمسين وثلاثمائة ، وهذه الوقعة الأخيرة هي المعروفة بوقعة المجاز .

التالي السابق


الخدمات العلمية