الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر رحيل أبي يزيد عن المهدية

لما تفرق أصحابه عنه كما ذكرنا ، اجتمع رؤساء من بقي معه وتشاوروا ، وقالوا : نمضي إلى القيروان ، ونجمع البربر من كل ناحية ، ونرجع إلى أبي يزيد ، فإننا لا نأمن أن يعرف القائم خبرنا فيقصدنا ، فركبوا ومضوا ، ولم يشاوروا أبا يزيد ، ومعهم أكثر العسكر ، فبعث إليهم أبو يزيد ليردهم ، فلم يقبلوا منه ، فرحل مسرعا في ثلاثين رجلا ، وترك جميع أثقاله ، فوصل إلى القيروان سادس صفر ، فنزل المصلى ، ولم يخرج إليه أحد من أهل القيروان سوى عامله ، وخرج الصبيان يلعبون حوله ويضحكون منه .

وبلغ القائم رجوعه ، فخرج الناس إلى أثقاله ، فوجدوا الطعام والخيام ( وغير ذلك ) على حاله ، فأخذوه وحسنت أحوالهم ، واستراحوا من شدة الحصار ، ورخصت الأسعار ، وأنفذ القائم إلى البلاد عمالا يطردون عمال أبي يزيد عنها ، فلما رأى أهل القيروان قلة عسكر أبي يزيد خافوا القائم ، فأرادوا أن يقبضوا أبا يزيد ، ثم هابوه ، فكاتبوا القائم يسألونه الأمان ، فلم يجبهم .

وبلغ أبا يزيد الخبر ، فأنكر على عامله بالقيروان اشتغاله بالأكل والشرب وغير [ ص: 143 ] ذلك ، وأمره أن يخرج العساكر من القيروان للجهاد ، ففعل ذلك ، وألان لهم القول ، وخوفهم القائم ، فخرجوا إليه .

وتسامع الناس في البلاد بذلك ، فأتاه العساكر من كل ناحية ، وكل أهل المدائن والقرى لما سمعوا تفرق عساكره عنه ، أخذوا عماله ، فمنهم ( من قتل ، ومنهم ) من أرسل إلى المهدية .

وثار أهل سوسة ، فقبضوا على جماعة من أصحابه ، فأرسلوهم إلى القائم ، فشكر لهم ذلك ، وأرسل إليهم سبعة مراكب من الطعام ، فلما اجتمعت عساكر أبي يزيد ، أرسل الجيوش إلى البلاد وأمرهم بالقتل والسبي والنهب والخراب وإحراق المنازل ، فوصل عسكره إلى تونس ، فدخلوها بالسيف في العشرين من صفر سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ، فنهبوا جميع ما فيها ، وسبوا النساء والأطفال ، وقتلوا الرجال ، ( وهدموا المساجد ) ، ونجا كثير من الناس إلى البحر فغرق .

فسير إليهم القائم عسكرا إلى تونس ، فخرج إليهم أصحاب أبي يزيد ، واقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزم عسكر القائم هزيمة قبيحة ، وحال بينهم الليل ، والتجئوا إلى جبل الرصاص ، ثم إلى اصطفورة ، فتبعهم عسكر أبي يزيد فلحقوهم واقتتلوا ، وصبر عسكر القائم ، فانهزم عسكر أبي يزيد وقتل منهم خلق كثير ، وقتلوا ، حتى دخلوا تونس خامس ربيع الأول وأخرجوا من فيها من أصحاب أبي يزيد بعد أن قتلوا أكثرهم ، وأخذ لهم من الطعام شيء كثير .

وكان لأبي يزيد ولد اسمه أيوب ، فلما بلغه الخبر أخرج معه عسكرا كثيرا ، فاجتمع مع من سلم من ذلك الجيش ، ورجعوا إلى تونس فقتلوا من عاد إليها وأحرقوا ما بقي فيها ، وتوجه إلى باجة ، فقتل من بها من أصحاب القائم ، ودخلها بالسيف وأحرقها ، وكان في هذه المدة من القتل والسبي والتخريب ما لا يوصف .

واتفق جماعة على قتل أبي يزيد ، وأرسلوا إلى القائم فرغبهم ووعدهم ، فاتصل الخبر بأبي يزيد فقتلهم ، وهجم رجال من البربر في الليل على رجل من أهل القيروان ، وأخذوا ماله وثلاث بنات أبكار ، فلما أصبح واجتمع الناس لصلاة الصبح ، قام الرجل في [ ص: 144 ] الجامع وصاح ، وذكر ما حل به ، فقام الناس معه وصاحوا ، فاجتمع الخلق العظيم ، ووصلوا إلى أبي يزيد فأسمعوه كلاما غليظا ، فاعتذر إليهم ولطف بهم وأمر برد البنات .

فلما انصرفوا وجدوا في طريقهم رجلا مقتولا ، فسألوا عنه ، فقيل إن فضل بن أبي يزيد قتله وأخذ امرأته ، وكانت جميلة ، فحمل الناس المقتول إلى الجامع ، وقالوا : لا طاعة إلا للقائم ، وأرادوا الوثوب بأبي يزيد ، فاجتمع أصحاب أبي يزيد عنده ولاموه ، وقالوا : فتحت على نفسك ما لا طاقة لك به لا سيما والقائم قريب منا ، فجمع أهل القيروان ، واعتذر إليهم ، وأعطاهم العهود أنه لا يقتل ، وينهب ، ولا يأخذ الحريم ، فأتاه سبي أهل تونس وهم عنده ، فوثبوا إليهم وخلصوهم .

وكان القائم قد أرسل إلى مقدم من أصحابه يسمى علي بن حمدون يأمره بجمع العساكر ومن قدر عليه من المسيلة ، فجمع منها ومن سطيف وغيرها ، فاجتمع له خلق كثير ، وتبعه بعض بني هراس فقصد المهدية ، فسمع به أيوب بن أبي يزيد ، وهو بمدينة باجة ، ولم يعلم به علي بن حمدون ، فسار إليه أيوب وكبسه واستباح عسكره ، وقتل فيهم وغنم أثقالهم ، وهرب علي المذكور ، ثم سير أيوب جريدة خيل إلى طائفة من عسكر المهدي خرجوا إلى تونس ، فساروا واجتمعوا ، ووقع بعضهم على بعض ( فكان بين الفريقين قتال عظيم ) ( قتل فيه ) جمع كثير وانهزم عسكرالقائم ، ثم عادوا ثانية وثالثة ، ( وعزموا على الموت ، وحملوا ) حملة رجل واحد ، فانهزم أصحاب أبي يزيد وقتلوا قتلا ذريعا ، وأخذت أثقالهم وعددهم ، وانهزم أيوب وأصحابه إلى القيروان في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة .

فعظم ذلك على أبي يزيد ، وأراد أن يهرب ( عن القيروان ) ، فأشار عليه [ ص: 145 ] أصحابه بالتوقف وترك العجلة ، ثم جمع عسكرا عظيما ، وأخرج ابنه أيوب ثانية لقتال علي بن حمدون بمكان يقال له بلطة ، وكانوا يقتتلون ، فمرة يظفر أيوب ، ومرة يظفر علي ، وكان علي قد وكل بحراسة المدينة من يثق به ، وكان يحرس بابا منها رجل اسمه أحمد ، فراسل أيوب في التسليم إليه على مال يأخذه ، فأجابه أيوب إلى ما طلب ، وقاتل على ذلك الباب ، ففتحه أحمد ودخله أصحاب أبي يزيد ، فقتلوا من كان بها ، وهرب علي إلى بلاد كتامة في ثلاثمائة فارس وأربعمائة راجل ، وكتب إلى قبائل كتامة ونفزة ومزاتة وغيرهم ، فاجتمعوا وعسكروا على مدينة القسنطينة .

ووجه عسكرا إلى هوارة ، فقتلوا هوارة ، وغنموا أموالهم ، وكان اعتماد أبي يزيد عليهم ، فاتصل الخبر بأبي يزيد ، فسير إليهم عساكر عظيمة يتبع بعضهم بعضا ، وكان بينهم حروب كثيرة ، والفتح والظفر في كلها لعلي وعسكر القائم ، وملك مدينة تيجس ، ومدينة باغاية ، وأخذهما من أبي يزيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية