الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ملك المنصور مدينة القيروان وانهزام أبي يزيد

لما بلغ المنصور الخبر ، سار إلى مدينة سوسة لسبع بقين من شوال من السنة ، فنزل خارجا منها ، وسر بما فعله أهل القيروان ، فكتب إليهم كتابا يؤمنهم فيه ; لأنه كان واجدا عليهم لطاعتهم أبا يزيد ، وأرسل من ينادي في الناس بالأمان ، وطابت نفوسهم ، ورحل إليهم ، فوصلها يوم الخميس لست بقين من شوال ، وخرج إليه أهلها ، فأمنهم ووعدهم خيرا .

ووجد في القيروان من حرم أبي يزيد وأولاده جماعة ، فحملهم إلى المهدية وأجرى عليهم الأرزاق .

ثم إن أبا يزيد جمع عساكره ، وأرسل سرية ( إلى القيروان ) يتخبرون له ، فاتصل [ ص: 147 ] خبرهم بالمنصور ، فسير إليهم سرية ، فالتقوا واقتتلوا ، وكان أصحاب أبي يزيد قد جعلوا كمينا ، فانهزموا ، وتبعهم أصحاب المنصور ، فخرج الكمين عليهم ، فأكثر فيهم القتل والجراح .

فلما سمع الناس ذلك ، سارعوا إلى أبي يزيد ، فكثر جمعه ، فعاد ونازل القيروان ، وكان المنصور قد جعل خندقا في عسكره ، ففرق أبو يزيد عسكره ثلاث فرق ، وقصد هو بشجعان أصحابه إلى خندق المنصور ، فاقتتلوا ، وعظم الأمر ، وكان الظفر للمنصور ، ثم عاودوا القتال ، فباشر المنصور القتال بنفسه ، وجعل يحمل يمينا وشمالا ، والمظلة على رأسه كالعلم ، ومعه خمسمائة فارس ، وأبو يزيد في مقدار ثلاثين ألفا ، فانهزم أصحاب المنصور هزيمة عظيمة حتى دخلوا الخندق ونهبوا ، وبقي المنصور في نحو عشرين فارسا .

وأقبل أبو يزيد قاصدا إلى المنصور ، فلما رآهم شهر سيفه وثبت مكانه ، وحمل بنفسه على أبي يزيد حتى كاد يقتله ، فولى أبو يزيد هاربا ، وقتل المنصور من أدرك منهم ، وأرسل من يرد عسكره فعادوا ، وكانوا قد سلكوا طريق المهدية وسوسة ، وتمادى القتال إلى الظهر فقتل منهم خلق كثير ، وكان يوما من الأيام المشهودة لم يكن في ماضي الأيام مثله .

ورأى الناس من شجاعة المنصور ما لم يظنوه ، فزادت هيبته في قلوبهم ، ورحل أبو يزيد عن القيروان أواخر ذي القعدة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ، ثم عاد إليها فلم يخرج إليه أحد ، ففعل ذلك غير مرة ، ونادى المنصور : من أتى برأس أبي يزيد ، فله عشرة آلاف دينار ، وأذن الناس في القتال ، فجرى قتال شديد ، فانهزم أصحاب المنصور حتى دخلوا الخندق ، ثم رجعت الهزيمة على أبي يزيد ، فافترقوا وقد انتصف بعضهم من بعض ، وقتل بينهم جمع عظيم ، وعادت الحرب مرة لهذا ومرة لهذا ، وصار أبو يزيد يرسل السرايا ، فيقطع الطريق بين المهدية والقيروان وسوسة .

ثم إنه أرسل إلى المنصور يسأل أن يسلم إليه حرمه وعياله الذين خلفهم بالقيروان وأخذهم المنصور ، فإن فعل ذلك ، دخل في طاعته على أن يؤمنه وأصحابه ، وحلف له بأغلظ الأيمان على ذلك ، فأجابه المنصور إلى ما طلب ، وأحضر عياله وسيرهم إليه [ ص: 148 ] مكرمين ، بعد أن وصلهم ، وأحسن كسوتهم ، وأكرمهم ، فلما وصلوا إليه ، نكث جميع ما عقده ، وقال : إنما وجههم خوفا مني ، فانقضت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ، ودخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة ، وهم على حالهم ( في القتال ) .

ففي خامس المحرم منها زحف أبو يزيد ، وركب المنصور ، وكان بين الفريقين قتال ما سمع بمثله ، وحملت البربر على المنصور وحمل عليها ، وجعل يضرب فيهم ، فانهزموا منه بعد أن قتل خلق كثير ، فلما انتصف المحرم عبأ المنصور عسكره ، فجعل في الميمنة أهل إفريقية ، وكتامة في الميسرة ، وهو في عبيده وخاصته في القلب ، فوقع بينهم قتال شديد ، فحمل أبو يزيد على الميمنة فهزمها ، ثم حمل على القلب فبادر إليه المنصور ، وقال : هذا يوم الفتح إن شاء الله تعالى . وحمل هو ومن معه حملة رجل واحد ، فانهزم أبو يزيد ، وأخذت السيوف أصحابه فولوا منهزمين ، وأسلموا أثقالهم ، وهرب أبو يزيد على وجهه ، فقتل من أصحابه ما لا يحصى ، فكان ما أخذه أطفال أهل القيروان من رءوس القتلى عشرة آلاف رأس ، وسار أبو يزيد إلى تاه مديت .

التالي السابق


الخدمات العلمية