[ ص: 348 ] 187
ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائة
ذكر
nindex.php?page=treesubj&link=33800إيقاع الرشيد بالبرامكة
وفي هذه السنة أوقع
الرشيد بالبرامكة ، وقتل
جعفر بن يحيى .
وكان سبب ذلك أن
الرشيد كان لا يصبر عن
جعفر وعن أخته
عباسة بنت المهدي ، وكان يحضرهما إذا جلس للشرب ، فقال
لجعفر : أزوجكها ليحل لك النظر إليها ولا تقربها ، فإني لا أطيق الصبر عنها . فأجابه إلى ذلك ، فزوجها منه ، وكانا يحضران معه ، ثم يقوم عنهما ، وهما شابان ، فجامعها
جعفر ، فحملت منه ، فولدت له غلاما ، فخافت
الرشيد ، فسيرته مع حواضن له إلى
مكة ، فأعطته الجواهر والنفقات .
ثم إن
عباسة وقع بينها وبين بعض جواريها شر ، فأنهت أمرها وأمر الصبي إلى
الرشيد ، فحج
هارون هذه السنة ، وبحث عن الأمر فعلمه .
وكان
جعفر ( يصنع
للرشيد طعاما
بعسفان إذا حج ، فصنع ذلك ، ودعاه فلم
[ ص: 349 ] يحضر ) عنده ، فكان ذلك أول تغير أمرهم .
وقيل : كان سبب ذلك أن
الرشيد دفع
يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي إلى
nindex.php?page=showalam&ids=13858جعفر بن يحيى بن خالد ، فحبسه ، ثم دعا به ليلة ، وسأله عن بعض أمره ، فقال له : اتق الله في أمري ، ولا تتعرض أن يكون غدا خصمك
محمد - صلى الله عليه وسلم - فوالله ما أحدثت حدثا ، ولا آويت محدثا .
فرق له وقال : اذهب حيث شئت من بلاد الله . قال : فكيف أذهب ولا آمن أن أوخذ ؟ فوجه معه من أداه إلى مأمنه .
وبلغ الخبر
nindex.php?page=showalam&ids=14912الفضل بن الربيع من عين كانت له من خواص
جعفر ، فرفعه إلى
الرشيد ، فقال : ما أنت هذا ؟ فعله عن أمري . ثم أحضر
جعفرا للطعام ، فجعل يلقمه ويحادثه ، ثم سأله عن
يحيى ، فقال : هو بحاله في الحبس . فقال : بحياتي ؟ ففطن
جعفر ، فقال : لا وحياتك ! وقص عليه أمره ، وقال : علمت أنه لا مكروه عنده . فقال : نعم ما فعلت ! ما عدوت ما في نفسي . فلما قام عنه قال : قتلني الله إن لم أقتلك ! فكان من أمره ما كان .
وقيل : كان من الأسباب أن
جعفرا ابتنى دارا غرم عليها عشرين ألف ألف درهم ، فرفع ذلك إلى
الرشيد ، وقيل : هذه غرامته على داره ، فما ظنك بنفقاته وصلاته وغير ذلك ؟ فاستعظمه .
وكان من الأسباب أيضا ما لا تعده العامة سببا ، وهو أقوى الأسباب ، ما سمع من
nindex.php?page=showalam&ids=17312يحيى بن خالد وهو يقول وقد تعلق بأستار
الكعبة في حجته هذه : اللهم إن كان رضاك أن تسلبني نعمك عندي فاسلبني ! اللهم إن كان رضاك أن تسلبني مالي وأهلي وولدي فاسلبني ، إلا
الفضل . ثم ولى ، فلما كان عند باب المسجد رجع ، فقال مثل ذلك ، وجعل يقول : اللهم إنه سمج بمثلي أن يستثني عليك ، اللهم
والفضل .
[ ص: 350 ] وسمع أيضا يقول في ذلك المقام : اللهم إن ذنوبي جمة عظيمة لا يحصيها غيرك . اللهم إن كنت تعاقبني فاجعل عقوبتي بذلك في الدنيا ، وإن أحاط ( ذلك بسمعي ) وبصري وولدي ومالي ، حتى يبلغ رضاك ، ولا تجعل عقوبتي في الآخرة . فاستجيب له .
فلما انصرفوا من الحج ونزلوا
الأنبار ، ونزل
الرشيد العمر نكبهم .
وكان أول ما ظهر من فساد حالهم أن
علي بن عيسى بن ماهان سعى
بموسى بن يحيى بن خالد ، واتهمه في أمر
خراسان ، وأعلم
الرشيد أنه يكاتبهم ليسير إليهم ، ويخرجهم عن الطاعة ، فحبسه ثم أطلقه .
وكان
nindex.php?page=showalam&ids=17312يحيى بن خالد يدخل على
الرشيد بغير إذن ، فدخل عليه يوما وعنده
جبرائيل بن بختيشوع الطبيب ، فسلم ، فرد
الرشيد ردا ضعيفا ، ثم أقبل
الرشيد على
جبرائيل ، فقال : أيدخل عليك منزلك أحد بغير إذن ؟ قال : لا ! قال : فما بالنا يدخل علينا بغير إذن ؟ فقال
يحيى : يا أمير المؤمنين ، ما ابتدأت ذلك الساعة ، ولكن أمير ( المؤمنين خصني به ، حتى إن كنت لأدخل وهو في فراشه مجردا ، وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يحب ، فإذا قد علمت فإني سأكون [ عنده ] في الطبقة التي تجعلني فيها . فاستحيا
هارون وقال : ما أردت ما تكره .
وكان
يحيى إذا دخل على
الرشيد قام له الغلمان ، فقال
الرشيد لمسرور : مر الغلمان لا يقومون
ليحيى إذا دخل الدار . فدخلها فلم يقوموا ، فتغير لونه ،
[ ص: 351 ] وكانوا بعد ذلك إذا رأوه أعرضوا عنه .
بفلما رجع
الرشيد من الحج نزل العمر الذي عند
الأنبار ، سلخ المحرم ، وأرسل
مسرورا الخادم ومعه جماعة من الجند إلى
جعفر ليلا ، وعنده
ابن بختيشوع المتطبب ،
وأبو زكار المغني ، وهو في لهوه
وأبو زكار يغني :
فلا تبعد ، فكل فتى سيأتي عليه الموت يطرق أو يغادي وكل ذخيرة لا بد يوما
وإن كرمت تصير إلى نفاد
قال
مسرور : فقلت له : يا
أبا الفضل ، الذي جئت له هو والله ذاك ، قد طرقك ، أجب أمير المؤمنين . فوقع على رجلي يقبلها ، وقال : حتى أدخل فأوصي ، فقلت : أما الدخول فلا سبيل إليه ، وأما الوصية فاصنع ما شئت . فأوصى بما أراد ، وأعتق مماليكه .
وأتتني رسل
الرشيد تستحثني ، فمضيت به إليه ، فأعلمته وهو في فراشه ، فقال : ائتني برأسه . فأتيت
جعفرا فأخبرته ، فقال : الله الله ! والله ما أمرك [ بما أمرك به ] إلا وهو سكران ، فدافع حتى أصبح ، أو راجعه في ثانية . فعدت لأراجعه ، فلما سمع حسي قال : يا ماص بظر أمه ، ائتني برأسه ! فرجعت إليه ( فأخبرته ، فقال : آمره . فرجعت ) ،
[ ص: 352 ] فحذفني بعمود كان في يده ، وقال : نفيت من المهدي ، إن لم تأتني برأسه لأقتلنك ! قال : فخرجت فقتلته وحملت رأسه إليه .
وأمر بتوجيه من أحاط
بيحيى وولده وجميع أسبابه ، وحول
nindex.php?page=showalam&ids=14918الفضل بن يحيى ليلا ، فحبس في بعض منازل
الرشيد ، وحبس
يحيى في منزله ، وأخذ ما وجد لهم من مال وضياع ومتاع وغير ذلك ، وأرسل من ليلته إلى سائر البلاد في قبض أموالهم ، ووكلائهم ، ورقيقهم ، وأسبابهم ، وكل ما لهم .
فلما أصبح أرسل
جيفة جعفر إلى
بغداذ ، وأمر أن ينصب رأسه على جسر ، ويقطع بدنه قطعتين ، تنصب كل قطعة على جسر .
ولم يعرض
الرشيد لمحمد بن خالد بن برمك وولده وأسبابه ، لأنه علم براءته مما دخل فيه أهله . وقيل : كان يسعى بهم .
ثم حبس
يحيى وبنيه
الفضل ومحمدا وموسى محبسا سهلا ، ولم يفرق بينهم وبين عدة من خدمهم ، ولا ما يحتاجون إليه من جارية وغيرها .
ولم تزل حالهم سهلة حتى قبض
الرشيد على
عبد الملك بن صالح ، فعمهم
[ ص: 353 ] بسخطه ، وجدد له ولهم التهمة عند
الرشيد ، فضيق عليهم .
ولما قتل
جعفر بن يحيى قيل لأبيه : قتل
الرشيد ابنك ! قال : كذلك يقتل ابنه . قيل : وقد أخرب ديارك . قال : كذلك تخرب دياره . فلما بلغ ذلك
الرشيد قال : قد خفت أن يكون ما قاله ; لأنه ما قال شيئا إلا ورأيت تأويله .
قال
سلام الأبرش : دخلت على
يحيى وقت قبضه ، وقد هتكت الستور ، وجمع المتاع ، فقال : هكذا تقوم القيامة . قال : فحدثت
الرشيد فأطرق مفكرا .
وكان قتل
جعفر ليلة السبت مستهل صفر ، وكان عمره سبعا وثلاثين سنة ، وكانت الوزارة إليهم سبع عشرة سنة ، ولما نكبوا قال
الرقاشي - وقيل :
nindex.php?page=showalam&ids=12185أبو نواس - :
الآن استرحنا واستراحت ركابنا وأمسك من يحدو ومن كان يحتدي
فقل للمطايا : قد أمنت من السرى وطي الفيافي فدفدا بعد فدفد
وقل للمنايا : قد ظفرت بجعفر ولن تظفري من بعده بمسود
وقل للعطايا بعد فضل : تعطلي وقل للرزايا كل يوم : تجددي
ودونك سيفا برمكيا مهندا أصيب بسيف هاشمي مهند
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17312يحيى بن خالد لما نكب : الدنيا دول ، والمال عارية ، ولنا بمن قبلنا أسوة ، وفينا لمن بعدنا عبرة .
ووقع
يحيى على قصة
محبوس : العدوان أوبقه ، والتوبة تطلقه .
وقال
جعفر بن يحيى : الحظ سمط الحكمة ، به تفصل شذورها وينظم منثورها .
[ ص: 354 ] قال
ثمامة : قلت
لجعفر : ما البيان ؟ قال : أن يكون الاسم محيطا بمعناك ، مخبرا عن مغزاك ، مخرجا من الشركة ، غير مستعان عليه بالفكرة .
[ ص: 348 ] 187
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
ذِكْرُ
nindex.php?page=treesubj&link=33800إِيقَاعِ الرَّشِيدِ بِالْبَرَامِكَةِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْقَعَ
الرَّشِيدُ بِالْبَرَامِكَةِ ، وَقَتَلَ
جَعْفَرَ بْنَ يَحْيَى .
وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ
الرَّشِيدَ كَانَ لَا يَصْبِرُ عَنْ
جَعْفَرٍ وَعَنْ أُخْتِهِ
عَبَّاسَةَ بِنْتِ الْمَهْدِيِّ ، وَكَانَ يُحْضِرُهُمَا إِذَا جَلَسَ لِلشُّرْبِ ، فَقَالَ
لِجَعْفَرٍ : أُزَوِّجُكَهَا لِيَحِلَّ لَكَ النَّظَرُ إِلَيْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا ، فَإِنِّي لَا أُطِيقُ الصَّبْرَ عَنْهَا . فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ ، فَزَوَّجَهَا مِنْهُ ، وَكَانَا يَحْضُرَانِ مَعَهُ ، ثُمَّ يَقُومُ عَنْهُمَا ، وَهُمَا شَابَّانِ ، فَجَامَعَهَا
جَعْفَرٌ ، فَحَمَلَتْ مِنْهُ ، فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا ، فَخَافَتِ
الرَّشِيدَ ، فَسَيَّرَتْهُ مَعَ حَوَاضِنَ لَهُ إِلَى
مَكَّةَ ، فَأَعْطَتْهُ الْجَوَاهِرَ وَالنَّفَقَاتِ .
ثُمَّ إِنَّ
عَبَّاسَةَ وَقَعَ بَيْنِهَا وَبَيْنَ بَعْضِ جَوَارِيهَا شَرٌّ ، فَأَنْهَتْ أَمْرَهَا وَأَمْرَ الصَّبِيِّ إِلَى
الرَّشِيدِ ، فَحَجَّ
هَارُونُ هَذِهِ السَّنَةَ ، وَبَحَثَ عَنِ الْأَمْرِ فَعَلِمَهُ .
وَكَانَ
جَعْفَرٌ ( يَصْنَعُ
لِلرَّشِيدِ طَعَامًا
بِعُسْفَانَ إِذَا حَجَّ ، فَصَنَعَ ذَلِكَ ، وَدَعَاهُ فَلَمْ
[ ص: 349 ] يَحْضُرْ ) عِنْدَهُ ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ تَغَيُّرِ أَمْرِهِمْ .
وَقِيلَ : كَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ
الرَّشِيدَ دَفَعَ
يَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَى
nindex.php?page=showalam&ids=13858جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ ، فَحَبَسَهُ ، ثُمَّ دَعَا بِهِ لَيْلَةً ، وَسَأَلَهُ عَنْ بَعْضِ أَمْرِهِ ، فَقَالَ لَهُ : اتَّقِ اللَّهَ فِي أَمْرِي ، وَلَا تَتَعَرَّضْ أَنْ يَكُونَ غَدًا خَصْمَكَ
مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَاللَّهِ مَا أَحْدَثْتُ حَدَثًا ، وَلَا آوَيْتُ مُحْدِثًا .
فَرَقَّ لَهُ وَقَالَ : اذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ مِنْ بِلَادِ اللَّهِ . قَالَ : فَكَيْفَ أَذْهَبُ وَلَا آمَنُ أَنْ أُوخَذَ ؟ فَوَجَّهَ مَعَهُ مَنْ أَدَّاهُ إِلَى مَأْمَنِهِ .
وَبَلَغَ الْخَبَرُ
nindex.php?page=showalam&ids=14912الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ مِنْ عَيْنٍ كَانَتْ لَهُ مِنْ خَوَاصِّ
جَعْفَرٍ ، فَرَفَعَهُ إِلَى
الرَّشِيدِ ، فَقَالَ : مَا أَنْتَ هَذَا ؟ فَعَلَهُ عَنْ أَمْرِي . ثُمَّ أَحْضَرَ
جَعْفَرًا لِلطَّعَامِ ، فَجَعَلَ يُلْقِمُهُ وَيُحَادِثُهُ ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ
يَحْيَى ، فَقَالَ : هُوَ بِحَالِهِ فِي الْحَبْسِ . فَقَالَ : بِحَيَاتِي ؟ فَفَطِنَ
جَعْفَرٌ ، فَقَالَ : لَا وَحَيَاتِكَ ! وَقَصَّ عَلَيْهِ أَمْرَهُ ، وَقَالَ : عَلِمْتُ أَنَّهُ لَا مَكْرُوهَ عِنْدَهُ . فَقَالَ : نِعْمَ مَا فَعَلْتَ ! مَا عَدَوْتَ مَا فِي نَفْسِي . فَلَمَّا قَامَ عَنْهُ قَالَ : قَتَلَنِي اللَّهُ إِنْ لَمْ أَقْتُلْكَ ! فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ .
وَقِيلَ : كَانَ مِنَ الْأَسْبَابِ أَنَّ
جَعْفَرًا ابْتَنَى دَارًا غَرِمَ عَلَيْهَا عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى
الرَّشِيدِ ، وَقِيلَ : هَذِهِ غَرَامَتُهُ عَلَى دَارِهِ ، فَمَا ظَنُّكَ بِنَفَقَاتِهِ وَصِلَاتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؟ فَاسْتَعْظَمَهُ .
وَكَانَ مِنَ الْأَسْبَابِ أَيْضًا مَا لَا تَعُدُّهُ الْعَامَّةُ سَبَبًا ، وَهُوَ أَقْوَى الْأَسْبَابِ ، مَا سُمِعَ مِنْ
nindex.php?page=showalam&ids=17312يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ وَهُوَ يَقُولُ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ
الْكَعْبَةِ فِي حَجَّتِهِ هَذِهِ : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ رِضَاكَ أَنْ تَسْلُبَنِي نِعَمَكَ عِنْدِي فَاسْلُبْنِي ! اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ رِضَاكَ أَنْ تَسْلُبَنِي مَالِي وَأَهْلِي وَوَلَدِي فَاسْلُبْنِي ، إِلَّا
الْفَضْلَ . ثُمَّ وَلَّى ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ رَجَعَ ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَجَعَلَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنَّهُ سَمِجٌ بِمِثْلِي أَنْ يَسْتَثْنِيَ عَلَيْكَ ، اللَّهُمَّ
وَالْفَضْلَ .
[ ص: 350 ] وَسُمِعَ أَيْضًا يَقُولُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ : اللَّهُمَّ إِنَّ ذُنُوبِي جَمَّةٌ عَظِيمَةٌ لَا يُحْصِيهَا غَيْرُكَ . اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تُعَاقِبُنِي فَاجْعَلْ عُقُوبَتِي بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنْ أَحَاطَ ( ذَلِكَ بِسَمْعِي ) وَبَصَرِي وَوَلَدِي وَمَالِي ، حَتَّى يَبْلُغَ رِضَاكَ ، وَلَا تَجْعَلْ عُقُوبَتِي فِي الْآخِرَةِ . فَاسْتُجِيبَ لَهُ .
فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنَ الْحَجِّ وَنَزَلُوا
الْأَنْبَارَ ، وَنَزَلَ
الرَّشِيدُ الْعُمْرَ نَكَبَهُمْ .
وَكَانَ أَوَّلَ مَا ظَهَرَ مِنْ فَسَادِ حَالِهِمْ أَنَّ
عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ سَعَى
بِمُوسَى بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ ، وَاتَّهَمَهُ فِي أَمْرِ
خُرَاسَانَ ، وَأَعْلَمَ
الرَّشِيدَ أَنَّهُ يُكَاتِبُهُمْ لِيَسِيرَ إِلَيْهِمْ ، وَيُخْرِجَهُمْ عَنِ الطَّاعَةِ ، فَحَبَسَهُ ثُمَّ أَطْلَقَهُ .
وَكَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=17312يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ يَدْخُلُ عَلَى
الرَّشِيدِ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَعِنْدَهُ
جِبْرَائِيلُ بْنُ بَخْتِيَشُوعَ الطَّبِيبُ ، فَسَلَّمَ ، فَرَدَّ
الرَّشِيدُ رَدًّا ضَعِيفًا ، ثُمَّ أَقْبَلَ
الرَّشِيدُ عَلَى
جِبْرَائِيلَ ، فَقَالَ : أَيَدْخُلُ عَلَيْكَ مَنْزِلَكَ أَحَدٌ بِغَيْرِ إِذْنٍ ؟ قَالَ : لَا ! قَالَ : فَمَا بَالُنَا يُدْخَلُ عَلَيْنَا بِغَيْرِ إِذْنٍ ؟ فَقَالَ
يَحْيَى : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، مَا ابْتَدَأْتُ ذَلِكَ السَّاعَةَ ، وَلَكِنَّ أَمِيرَ ( الْمُؤْمِنِينَ خَصَّنِي بِهِ ، حَتَّى إِنْ كُنْتُ لَأَدْخُلُ وَهُوَ فِي فِرَاشِهِ مُجَرَّدًا ، وَمَا عَلِمْتُ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَرِهَ مَا كَانَ يُحِبُّ ، فَإِذَا قَدْ عَلِمْتُ فَإِنِّي سَأَكُونُ [ عِنْدَهُ ] فِي الطَّبَقَةِ الَّتِي تَجْعَلُنِي فِيهَا . فَاسْتَحْيَا
هَارُونُ وَقَالَ : مَا أَرَدْتُ مَا تَكْرَهُ .
وَكَانَ
يَحْيَى إِذَا دَخَلَ عَلَى
الرَّشِيدِ قَامَ لَهُ الْغِلْمَانُ ، فَقَالَ
الرَّشِيدُ لِمَسْرُورٍ : مُرِ الْغِلْمَانَ لَا يَقُومُونَ
لِيَحْيَى إِذَا دَخَلَ الدَّارَ . فَدَخَلَهَا فَلَمْ يَقُومُوا ، فَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ ،
[ ص: 351 ] وَكَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا رَأَوْهُ أَعْرَضُوا عَنْهُ .
بفَلَمَّا رَجَعَ
الرَّشِيدُ مِنَ الْحَجِّ نَزَلَ الْعُمْرَ الَّذِي عِنْدَ
الْأَنْبَارِ ، سَلْخَ الْمُحَرَّمِ ، وَأَرْسَلَ
مَسْرُورًا الْخَادِمَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْجُنْدِ إِلَى
جَعْفَرٍ لَيْلًا ، وَعِنْدَهُ
ابْنُ بَخْتِيَشُوعَ الْمُتَطَبِّبُ ،
وَأَبُو زَكَّارٍ الْمُغَنِّي ، وَهُوَ فِي لَهْوِهِ
وَأَبُو زَكَّارٍ يُغَنِّي :
فَلَا تَبْعَدْ ، فَكُلُّ فَتًى سَيَأْتِي عَلَيْهِ الْمَوْتُ يَطْرُقُ أَوْ يُغَادِي وَكُلُّ ذَخِيرَةٍ لَا بُدَّ يَوْمًا
وَإِنْ كَرُمَتْ تَصِيرُ إِلَى نَفَادِ
قَالَ
مَسْرُورٌ : فَقُلْتُ لَهُ : يَا
أَبَا الْفَضْلِ ، الَّذِي جِئْتُ لَهُ هُوَ وَاللَّهِ ذَاكَ ، قَدْ طَرَقَكَ ، أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ . فَوَقَعَ عَلَى رِجْلِيَّ يُقَبِّلُهَا ، وَقَالَ : حَتَّى أَدْخُلَ فَأُوصِيَ ، فَقُلْتُ : أَمَّا الدُّخُولُ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ ، وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ . فَأَوْصَى بِمَا أَرَادَ ، وَأَعْتَقَ مَمَالِيكَهُ .
وَأَتَتْنِي رُسُلُ
الرَّشِيدِ تَسْتَحِثُّنِي ، فَمَضَيْتُ بِهِ إِلَيْهِ ، فَأَعْلَمْتُهُ وَهُوَ فِي فِرَاشِهِ ، فَقَالَ : ائْتِنِي بِرَأْسِهِ . فَأَتَيْتُ
جَعْفَرًا فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : اللَّهَ اللَّهَ ! وَاللَّهِ مَا أَمَرَكَ [ بِمَا أَمَرَكَ بِهِ ] إِلَّا وَهُوَ سَكْرَانُ ، فَدَافِعْ حَتَّى أُصْبِحَ ، أَوْ رَاجِعْهُ فِيَّ ثَانِيَةً . فَعُدْتُ لِأُرَاجِعَهُ ، فَلَمَّا سَمِعَ حِسِّي قَالَ : يَا مَاصَّ بَظْرِ أُمِّهِ ، ائْتِنِي بِرَأْسِهِ ! فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ ( فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : آمِرْهُ . فَرَجَعْتُ ) ،
[ ص: 352 ] فَحَذَفَنِي بِعَمُودٍ كَانَ فِي يَدِهِ ، وَقَالَ : نُفِيتُ مِنَ الْمَهْدِيِّ ، إِنْ لَمْ تَأْتِنِي بِرَأْسِهِ لَأَقْتُلَنَّكَ ! قَالَ : فَخَرَجْتُ فَقَتَلْتُهُ وَحَمَلْتُ رَأْسَهُ إِلَيْهِ .
وَأَمَرَ بِتَوْجِيهِ مَنْ أَحَاطَ
بِيَحْيَى وَوَلَدِهِ وَجَمِيعِ أَسْبَابِهِ ، وَحَوَّلَ
nindex.php?page=showalam&ids=14918الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى لَيْلًا ، فَحُبِسَ فِي بَعْضِ مَنَازِلِ
الرَّشِيدِ ، وَحُبِسَ
يَحْيَى فِي مَنْزِلِهِ ، وَأَخَذَ مَا وَجَدَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ وَضِيَاعٍ وَمَتَاعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَأَرْسَلَ مِنْ لَيْلَتِهِ إِلَى سَائِرِ الْبِلَادِ فِي قَبْضِ أَمْوَالِهِمْ ، وَوُكَلَائِهِمْ ، وَرَقِيقِهِمْ ، وَأَسْبَابِهِمْ ، وَكُلِّ مَا لَهُمْ .
فَلَمَّا أَصْبَحَ أَرْسَلَ
جِيفَةَ جَعْفَرٍ إِلَى
بَغْدَاذَ ، وَأَمَرَ أَنْ يُنْصَبَ رَأْسُهُ عَلَى جِسْرٍ ، وَيُقْطَعَ بَدَنُهُ قِطْعَتَيْنِ ، تُنْصَبَ كُلُّ قِطْعَةٍ عَلَى جِسْرٍ .
وَلَمْ يَعْرِضِ
الرَّشِيدُ لِمُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ وَوَلَدِهِ وَأَسْبَابِهِ ، لِأَنَّهُ عَلِمَ بَرَاءَتَهُ مِمَّا دَخَلَ فِيهِ أَهْلُهُ . وَقِيلَ : كَانَ يَسْعَى بِهِمْ .
ثُمَّ حَبَسَ
يَحْيَى وَبَنِيهِ
الْفَضْلَ وَمُحَمَّدًا وَمُوسَى مَحْبَسًا سَهْلًا ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عِدَّةٍ مِنْ خَدَمِهِمْ ، وَلَا مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ جَارِيَةٍ وَغَيْرِهَا .
وَلَمْ تَزَلْ حَالُهُمْ سَهْلَةً حَتَّى قَبَضَ
الرَّشِيدُ عَلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ ، فَعَمَّهُمْ
[ ص: 353 ] بِسُخْطِهِ ، وَجُدِّدَ لَهُ وَلَهُمُ التُّهْمَةُ عِنْدَ
الرَّشِيدِ ، فَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ .
وَلَمَّا قُتِلَ
جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى قِيلَ لِأَبِيهِ : قَتَلَ
الرَّشِيدُ ابْنَكَ ! قَالَ : كَذَلِكَ يُقْتَلُ ابْنُهُ . قِيلَ : وَقَدْ أَخْرَبَ دِيَارَكَ . قَالَ : كَذَلِكَ تُخَرَّبُ دِيَارُهُ . فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ
الرَّشِيدَ قَالَ : قَدْ خِفْتُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ ; لِأَنَّهُ مَا قَالَ شَيْئًا إِلَّا وَرَأَيْتُ تَأْوِيلَهُ .
قَالَ
سَلَامُ الْأَبْرَشُ : دَخَلْتُ عَلَى
يَحْيَى وَقْتَ قَبْضِهِ ، وَقَدْ هُتِكَتِ السُّتُورُ ، وَجُمِعَ الْمَتَاعُ ، فَقَالَ : هَكَذَا تَقُومُ الْقِيَامَةُ . قَالَ : فَحَدَّثْتُ
الرَّشِيدَ فَأَطْرَقَ مُفَكِّرًا .
وَكَانَ قَتْلُ
جَعْفَرٍ لَيْلَةَ السَّبْتِ مُسْتَهَلَّ صَفَرٍ ، وَكَانَ عُمْرُهُ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً ، وَكَانَتِ الْوِزَارَةُ إِلَيْهِمْ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَلَمَّا نُكِبُوا قَالَ
الرَّقَاشِيُّ - وَقِيلَ :
nindex.php?page=showalam&ids=12185أَبُو نُوَاسٍ - :
الْآنَ اسْتَرَحْنَا وَاسْتَرَاحَتْ رِكَابُنَا وَأَمْسَكَ مَنْ يَحْدُو وَمَنْ كَانَ يَحْتَدِي
فَقُلْ لِلْمَطَايَا : قَدْ أَمِنْتِ مِنَ السُّرَى وَطَيِّ الْفَيَافِي فَدْفَدًا بَعْدَ فَدْفَدِ
وَقُلْ لِلْمَنَايَا : قَدْ ظَفِرْتِ بِجَعْفَرٍ وَلَنْ تَظْفَرِي مِنْ بَعْدِهِ بِمُسَوَّدِ
وَقُلْ لِلْعَطَايَا بَعْدَ فَضْلٍ : تَعَطَّلِي وَقُلْ لِلرَّزَايَا كُلَّ يَوْمٍ : تَجَدَّدِي
وَدُونَكَ سَيْفًا بَرْمَكِيًّا مُهَنَّدًا أُصِيبَ بِسَيْفٍ هَاشِمِيٍّ مُهَنَّدِ
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=17312يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ لَمَّا نُكِبَ : الدُّنْيَا دُوَلٌ ، وَالْمَالُ عَارِيَةٌ ، وَلَنَا بِمَنْ قَبْلَنَا أُسْوَةٌ ، وَفِينَا لِمَنْ بَعْدَنَا عِبْرَةٌ .
وَوَقَّعَ
يَحْيَى عَلَى قَصَّةِ
مَحْبُوسٍ : الْعُدْوَانُ أَوْبَقَهُ ، وَالتَّوْبَةُ تُطْلِقُهُ .
وَقَالَ
جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى : الْحَظُّ سِمْطُ الْحِكْمَةِ ، بِهِ تُفَصَّلُ شُذُورُهَا وَيُنَظَمُ مَنْثُورُهَا .
[ ص: 354 ] قَالَ
ثُمَامَةُ : قُلْتُ
لِجَعْفَرٍ : مَا الْبَيَانُ ؟ قَالَ : أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ مُحِيطًا بِمَعْنَاكَ ، مُخْبِرًا عَنْ مَغْزَاكَ ، مُخْرِجًا مِنَ الشَّرِكَةِ ، غَيْرَ مُسْتَعَانٍ عَلَيْهِ بِالْفِكْرَةِ .