[ ص: 455 ] 77
ثم دخلت سنة سبع وسبعين
ذكر
nindex.php?page=treesubj&link=33730_33754_33749محاربة شبيب عتاب بن ورقاء وزهرة بن حوية وقتلهما
وفي هذه السنة قتل
شبيب عتاب بن ورقاء الرياحي وزهرة بن حوية .
وسبب ذلك أن
شبيبا لما هزم الجيش الذي كان وجهه
الحجاج مع
nindex.php?page=showalam&ids=12582عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، وقتل
عثمان بن قطن ، كان ذلك في حر شديد ، وأتى
شبيب ماه
بهراذان فصيف بها ثلاثة أشهر ، وأتاه ناس كثير ممن يطلب الدنيا ، وممن كان
الحجاج يطلبهم بمال أو تبعات . فلما ذهب الحر خرج
شبيب في نحو ثمانمائة رجل فأقبل نحو
المدائن ، وعليها
مطرف بن المغيرة بن شعبة ، فجاء حتى نزل
قناطر nindex.php?page=showalam&ids=21حذيفة بن اليمان ، فكتب عظيم
بابل مهروذ إلى
الحجاج بذلك ، فلما قرأ الكتاب قام في الناس فقال : أيها الناس ، لتقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم ، أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأصبر على اللأواء والقيظ منكم ، فيقاتلون عدوكم ويأكلون فيئكم .
فقام إليه الناس من كل جانب ومكان فقالوا : نحن نقاتلهم ونعتب الأمير ، فليندبنا الأمير إليهم . وقام إليه
زهرة بن حوية ، وهو شيخ كبير لا يستتم قائما حتى يؤخذ بيده ، فقال [ له ] : أصلح الله الأمير ، إنما تبعث إليهم الناس متقطعين ، فاستنفر الناس إليهم كافة ، وابعث إليهم رجلا شجاعا مجربا ممن يرى الفرار هضما وعارا ، والصبر مجدا وكرما . فقال
الحجاج : فأنت ذلك الرجل ، فاخرج . فقال
زهرة : أصلح الله الأمير ، إنما يصلح الرجل يحمل الدرع والرمح ، ويهز السيف ، ويثبت على [ متن ] الفرس ، وأنا لا أطيق من هذا شيئا ، وقد ضعف بصري [ وضعفت ] ، ولكن أخرجني مع الأمير في
[ ص: 456 ] الناس ، فأكون معه وأشير عليه برأيي . فقال
الحجاج : جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله في أول أمرك وآخره ، فقد نصحت . ثم قال : أيها الناس ، سيروا بأجمعكم كافة .
فانصرف الناس يتجهزون ولا يدرون من أميرهم . وكتب
الحجاج إلى
عبد الملك يخبره أن
شبيبا قد شارف
المدائن وأنه يريد
الكوفة ، وقد عجز
أهل الكوفة عن قتاله في مواطن كثيرة ، [ في كلها ] يقتل أمراءهم ويهزم جنودهم ، ويطلب إليه أن يبعث إليه جندا من
الشام ، يقاتلون
الخوارج ويأكلون البلاد .
فلما أتى الكتاب بعث إليه
عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبي في أربعة آلاف ،
وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي في ألفين . فبعث
الحجاج إلى
عتاب بن ورقاء الرياحي ، وهو مع
المهلب ، يستدعيه ، وكان
عتاب قد كتب إلى
الحجاج يشكو من
المهلب ، ويسأله أن يضمه إليه ; لأن
عتابا طلب من
المهلب أن يرزق
أهل الكوفة الذين معه من مال
فارس ، فأبى عليه ، وجرت بينهما منافرة ، فكادت تؤدي إلى الحرب ، فدخل
المغيرة بن المهلب بينهما فأصلح الأمر ، وألزم أباه برزق
أهل الكوفة ، فأجابه إلى ذلك ، وكتب يشكو منه .
فلما ورد كتابه سر
الحجاج بذلك واستدعاه ، ثم جمع
الحجاج أهل الكوفة واستشارهم فيمن يوليه أمر الجيش ، فقالوا : رأيك أفضل . فقال : قد بعثت إلى
عتاب ، وهو قادم عليكم الليلة أو القابلة . فقال
زهرة : أيها الأمير ، رميتهم بحجرهم ، والله لا نرجع إليك حتى نظفر أو نقتل .
وقال له
قبيصة بن والق : إن الناس قد تحدثوا أن جيشا قد وصل إليك من
الشام ، وأن
أهل الكوفة قد هزموا ، وهان عليهم الفرار ، فقلوبهم كأنها ليست فيهم ، فإن رأيت أن تبعث إلى
أهل الشام ليأخذوا حذرهم ، ولا يبيتوا إلا وهم محتاطون ، فإنك تحارب حولا قلبا ظعانا رحالا ، وقد جهزت إليهم
أهل الكوفة ، ولست واثقا بهم كل الثقة ، وإن
شبيبا بينا هو في أرض إذا هو في أخرى ، ولا آمن أن يأتي
أهل الشام وهم آمنون ، فإن يهلكوا نهلك ويهلك
العراق .
قال له : لله أبوك ، ما أحسن ما أشرت به ! وأرسل إلى
الشام يحذرهم ، ويأمرهم أن يأتوا على
عين التمر . ففعلوا .
وقدم
عتاب بن ورقاء تلك الليلة ، فبعثه
الحجاج على ذلك الجيش ، فعسكر
بحمام [ ص: 457 ] أعين ، وأقبل
شبيب حتى انتهى إلى
كلواذى ، فقطع فيها
دجلة ، ( ثم سار حتى نزل مدينة
بهرسير الدنيا ، فصار بينه وبين
مطرف [
جسر ] دجلة ) ، وقطع
مطرف الجسر وبعث إلى
شبيب : أن ابعث إلي رجالا من وجوه أصحابك أدارسهم القرآن ، وأنظر فيما يدعون إليه . فبعث إليه
قعنب بن سويد والمحلل وغيرهما ، وأخذ منه رهائن إلى أن يعودوا ، فأقاموا عنده أربعة أيام ، ثم لم يتفقوا على شيء . فلما لم يتبعه
مطرف تهيأ للمسير إلى
عتاب وقال لأصحابه : إني كنت عازما أن آتي
أهل الشام جريدة ، وألقاهم على غرة قبل أن يتصلوا بأمير مثل
الحجاج ،
ومصر مثل
الكوفة ، فثبطني عنهم
مطرف ، وقد جاءتني عيوني ، فأخبروني أن أوائلهم قد دخلوا
عين التمر ، فهم الآن قد شارفوا
الكوفة ، وقد أخبروني أن
عتابا ومن معه
بالبصرة ، فما أقرب ما بيننا وبينه ، فتيسروا للمسير إلى
عتاب .
وخاف
مطرف بن المغيرة أن يبلغ خبره مع
شبيب إلى
الحجاج ، فخرج نحو الجبال . فأرسل
شبيب أخاه مصادا إلى
المدائن وعقد الجسر ، وأقبل
عتاب إليه حتى نزل بسوق حكمة ، وقد خرج معه من المقاتلة أربعون ألفا ، ومن الشباب والأتباع عشرة آلاف ، فكانوا خمسين ألفا ، وكان
الحجاج قد قال لهم حين ساروا : إن للسائر المجتهد الكرامة والأثرة ، وللهارب الهوان والجفوة ، والذي لا إله غيره لئن فعلتم في هذه المواطن كفعلكم في المواطن الأخر لأولينكم كنفا خشنا ، ولأعركنكم بكلكل ثقيل .
فلما بلغ
عتاب سوق حكمة أتاه
شبيب ، وكان أصحابه
بالمدائن ألف رجل ، فحثهم على القتال ، وسار بهم ، فتخلف عنه بعضهم ، ثم صلى الظهر
بساباط ، وصلى العصر وسار حتى أشرف على
عتاب وعسكره ، فلما رآهم نزل فصلى المغرب ، وكان
عتاب قد عبأ أصحابه ، فجعل في الميمنة
محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس ، وقال : يا ابن أخي ، إنك شريف صابر . فقال : والله لأصبرن ما ثبت معي إنسان . وقال
لقبيصة بن والق الثعلبي : اكفني الميسرة . فقال : أنا شيخ كبير ، لا أستطيع القيام إلا أن أقام . فجعل عليها
نعيم بن عليم ، وبعث
حنظلة بن الحارث اليربوعي ، وهو ابن عمه وشيخ أهل بيته ، على الرجالة ، وصفهم ثلاثة صفوف : صف فيهم أصحاب السيوف ، وصف فيهم أصحاب الرماح ، وصف فيهم الرماة ، ثم سار في الناس يحرضهم على القتال ويقص عليهم ، ثم قال : أين القصاص ؟ فلم يجبه أحد . ثم قال : أين من يروي شعر
عنترة ؟ فلم يجبه أحد . فقال : إنا لله ، كأني بكم قد فررتم عن
عتاب بن ورقاء ، وتركتموه تسفي في استه الريح !
[ ص: 458 ] ثم أقبل حتى جلس في القلب ومعه
زهرة بن حوية جالس ،
nindex.php?page=showalam&ids=12582وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ،
وأبو بكر بن محمد بن أبي جهم العدوي . وأقبل
شبيب وهو في ستمائة وقد تخلف عنه من أصحابه أربعمائة ، فقال : لقد تخلف عنا من لا أحب أن يرى فينا ، فجعل
سويد بن سليم في مائتين في الميسرة ، وجعل
المحلل بن وائل في مائتين في القلب ، ومضى هو في مائتين إلى الميمنة بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر ، فناداهم : لمن هذه الرايات ؟ فقالوا : رايات
لربيعة . قال : طالما نصرت الحق ، وطالما نصرت الباطل ، والله لأجاهدنكم محتسبا ، أنا
شبيب ، لا حكم إلا لله ، للحكم ، اثبتوا إن شئتم ! ثم حمل عليهم ففضهم ، فثبت أصحاب رايات
قبيصة بن والق ،
وعبيد بن الحليس ،
ونعيم بن عليم فقتلوا ، وانهزمت الميسرة كلها ، ونادى الناس من
بني ثعلبة : قتل
قبيصة ! وقال
شبيب : قتلتموه ، ومثله كما قال الله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=175واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها . ثم وقف عليه وقال : ويحك لو ثبت على إسلامك الأول سعدت ! وقال لأصحابه : إن هذا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم ، ثم جاء يقاتلكم مع الفسقة .
ثم إن
شبيبا حمل من الميسرة على
عتاب ، وحمل
سويد بن سليم على الميمنة ، وعليهما
محمد بن عبد الرحمن ، فقاتلهم في رجال من
تميم وهمدان ، فما زالوا كذلك حتى قيل لهم قتل
عتاب ، فانفضوا .
ولم يزل
عتاب جالسا على
طنفسة في القلب ومعه
زهرة بن حوية إذ غشيهم
شبيب ، فقال له
عتاب : يا
زهرة ، هذا يوم كثر فيه العدد ، وقل فيه الغناء ، والهفي على خمسمائة فارس من
تميم من جميع الناس ، ألا صابر لعدوه ؟ ألا مواس بنفسه ؟ فانفضوا عنه وتركوه ، فقال [ له ]
زهرة : أحسنت يا
عتاب ، فعلت فعلا [ لا يفعله ] مثلك . أبشر ، فإني أرجو أن يكون الله - جل ثناؤه - قد أهدى إلينا الشهادة عند فناء أعمارنا .
فلما دنا منه
شبيب وثب في عصابة قليلة صبرت معه وقد ذهب الناس ، فقيل له : إن
nindex.php?page=showalam&ids=12582عبد الرحمن بن الأشعث قد هرب وتبعه ناس كثير . فقال : ما رأيت ذلك الفتى يبالي ما صنع . ثم قاتلهم ساعة ، فرآه رجل من أصحاب
شبيب يقال له
عامر بن عمر التغلبي ، فحمل عليه فطعنه ، ووطئت الخيل
زهرة بن حوية ، فأخذ يذب بسيفه لا يستطيع أن يقوم ،
[ ص: 459 ] فجاءه
الفضل بن عامر الشيباني فقتله ، فانتهى إليه
شبيب فرآه صريعا فعرفه ، فقال : هذا
زهرة بن حوية ، أما والله لئن كنت قتلت على ضلالة لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك ، وعظم فيه غناؤك ! ولرب خيل للمشركين هزمتها ، وقرية من قراهم جم أهلها قد افتتحتها ! ثم كان في علم الله أنك تقتل ناصرا للظالمين . وتوجع له . فقال له رجل من أصحابه : إنك لتتوجع لرجل كافر . فقال : إنك لست بأعرف بضلالتهم مني ، ولكني أعرف من قديم أمرهم ما لا تعرف ، ما لو ثبتوا عليه لكانوا إخواننا .
فاستمسك
شبيب من أهل العسكر والناس ، فقال : ارفعوا السيف ، ودعاهم إلى البيعة ، فبايعه الناس وهربوا من تحت ليلتهم ، وحوى ما في العسكر ، وبعث إلى أخيه فأتاه من
المدائن . وأقام
شبيب بعد الوقعة
ببيت قرة يومين ، ثم سار نحو
الكوفة ، فنزل
بسورا وقتل عاملها .
وكان
سفيان بن الأبرد وعسكر
الشام قد دخلوا
الكوفة ، فشدوا ظهر الحجاج واستغنى به وبعسكره عن
أهل الكوفة ، فقام على المنبر فقال : يا
أهل الكوفة ، لا أعز الله من أراد بكم العز ، ولا نصر من أراد بكم النصر ، اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا ، انزلوا
بالحيرة مع
اليهود والنصارى ، ولا يقاتل معنا إلا من لم يشهد قتال
عتاب .
[ ص: 455 ] 77
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ
ذِكْرُ
nindex.php?page=treesubj&link=33730_33754_33749مُحَارَبَةِ شَبِيبٍ عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ وَزُهْرَةَ بْنَ حَوِيَّةَ وَقَتْلِهِمَا
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ
شَبِيبٌ عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ الرِّيَاحِيَّ وَزُهْرَةَ بْنَ حَوِيَّةَ .
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ
شَبِيبًا لَمَّا هَزَمَ الْجَيْشَ الَّذِي كَانَ وَجَّهَهُ
الْحَجَّاجُ مَعَ
nindex.php?page=showalam&ids=12582عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ ، وَقُتِلَ
عُثْمَانُ بْنُ قَطَنٍ ، كَانَ ذَلِكَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ ، وَأَتَى
شَبِيبٌ مَاهَ
بَهْرَاذَانَ فَصَيَّفَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ، وَأَتَاهُ نَاسٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا ، وَمِمَّنْ كَانَ
الْحَجَّاجُ يَطْلُبُهُمْ بِمَالٍ أَوْ تَبِعَاتٍ . فَلَمَّا ذَهَبَ الْحَرُّ خَرَجَ
شَبِيبٌ فِي نَحْوِ ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ فَأَقْبَلَ نَحْوَ
الْمَدَائِنِ ، وَعَلَيْهَا
مُطَرِّفُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، فَجَاءَ حَتَّى نَزَلَ
قَنَاطِرَ nindex.php?page=showalam&ids=21حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ ، فَكَتَبَ عَظِيمُ
بَابِلَ مَهْرُوذُ إِلَى
الْحَجَّاجِ بِذَلِكَ ، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، لَتُقَاتِلُنَّ عَنْ بِلَادِكُمْ وَعَنْ فَيْئِكُمْ ، أَوْ لَأَبْعَثَنَّ إِلَى قَوْمٍ هُمْ أَطْوَعُ وَأَصْبَرُ عَلَى اللَّأْوَاءِ وَالْقَيْظِ مِنْكُمْ ، فَيُقَاتِلُونَ عَدُوَّكُمْ وَيَأْكُلُونَ فَيْئَكُمْ .
فَقَامَ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَمَكَانٍ فَقَالُوا : نَحْنُ نُقَاتِلُهُمْ وَنَعْتِبُ الْأَمِيرَ ، فَلْيَنْدُبْنَا الْأَمِيرُ إِلَيْهِمْ . وَقَامَ إِلَيْهِ
زُهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَتِمُّ قَائِمًا حَتَّى يُؤْخَذَ بِيَدِهِ ، فَقَالَ [ لَهُ ] : أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ ، إِنَّمَا تَبْعَثُ إِلَيْهِمُ النَّاسَ مُتَقَطِّعِينَ ، فَاسْتَنْفِرِ النَّاسَ إِلَيْهِمْ كَافَّةً ، وَابْعَثْ إِلَيْهِمْ رَجُلًا شُجَاعًا مُجَرِّبًا مِمَّنْ يَرَى الْفِرَارَ هَضْمًا وَعَارًا ، وَالصَّبْرَ مَجْدًا وَكَرَمًا . فَقَالَ
الْحَجَّاجُ : فَأَنْتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ ، فَاخْرُجْ . فَقَالَ
زُهْرَةُ : أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ ، إِنَّمَا يَصْلُحُ الرَّجُلُ يَحْمِلُ الدِّرْعَ وَالرُّمْحَ ، وَيَهُزُّ السَّيْفَ ، وَيَثْبُتُ عَلَى [ مَتْنِ ] الْفَرَسِ ، وَأَنَا لَا أُطِيقُ مِنْ هَذَا شَيْئًا ، وَقَدْ ضَعُفَ بَصَرِي [ وَضَعُفْتُ ] ، وَلَكِنْ أَخْرِجْنِي مَعَ الْأَمِيرِ فِي
[ ص: 456 ] النَّاسِ ، فَأَكُونُ مَعَهُ وَأُشِيرُ عَلَيْهِ بِرَأْيِي . فَقَالَ
الْحَجَّاجُ : جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا عَنِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ فِي أَوَّلِ أَمْرِكَ وَآخِرِهِ ، فَقَدْ نَصَحْتَ . ثُمَّ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، سِيرُوا بِأَجْمَعِكُمْ كَافَّةً .
فَانْصَرَفَ النَّاسُ يَتَجَهَّزُونَ وَلَا يَدْرُونَ مَنْ أَمِيرُهُمْ . وَكَتَبَ
الْحَجَّاجُ إِلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ يُخْبِرُهُ أَنَّ
شَبِيبًا قَدْ شَارَفَ
الْمَدَائِنَ وَأَنَّهُ يُرِيدُ
الْكُوفَةَ ، وَقَدْ عَجَزَ
أَهْلُ الْكُوفَةِ عَنْ قِتَالِهِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ، [ فِي كُلِّهَا ] يَقْتُلُ أُمَرَاءَهُمْ وَيَهْزِمُ جُنُودَهُمْ ، وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ جُنْدًا مِنَ
الشَّامِ ، يُقَاتِلُونَ
الْخَوَارِجَ وَيَأْكُلُونَ الْبِلَادَ .
فَلَمَّا أَتَى الْكِتَابُ بَعَثَ إِلَيْهِ
عَبْدُ الْمَلِكِ سُفْيَانَ بْنَ الْأَبْرَدِ الْكَلْبِيَّ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ ،
وَحَبِيبَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَكَمِيَّ فِي أَلْفَيْنِ . فَبَعَثَ
الْحَجَّاجُ إِلَى
عَتَّابِ بْنِ وَرْقَاءَ الرِّيَاحِيِّ ، وَهُوَ مَعَ
الْمُهَلَّبِ ، يَسْتَدْعِيهِ ، وَكَانَ
عَتَّابٌ قَدْ كَتَبَ إِلَى
الْحَجَّاجِ يَشْكُو مِنَ
الْمُهَلَّبِ ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَضُمَّهُ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ
عَتَّابًا طَلَبَ مِنَ
الْمُهَلَّبِ أَنْ يَرْزُقَ
أَهْلَ الْكُوفَةِ الَّذِينَ مَعَهُ مِنْ مَالِ
فَارِسَ ، فَأَبَى عَلَيْهِ ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا مُنَافَرَةٌ ، فَكَادَتْ تُؤَدِّي إِلَى الْحَرْبِ ، فَدَخَلَ
الْمُغِيرَةُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بَيْنَهُمَا فَأَصْلَحَ الْأَمْرَ ، وَأَلْزَمَ أَبَاهُ بِرِزْقِ
أَهْلِ الْكُوفَةِ ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ ، وَكَتَبَ يَشْكُو مِنْهُ .
فَلَمَّا وَرَدَ كِتَابُهُ سُرَّ
الْحَجَّاجُ بِذَلِكَ وَاسْتَدْعَاهُ ، ثُمَّ جَمَعَ
الْحَجَّاجُ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَنْ يُوَلِّيهِ أَمْرَ الْجَيْشِ ، فَقَالُوا : رَأْيُكَ أَفْضَلُ . فَقَالَ : قَدْ بَعَثْتُ إِلَى
عَتَّابٍ ، وَهُوَ قَادِمٌ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَةَ أَوِ الْقَابِلَةَ . فَقَالَ
زُهْرَةُ : أَيُّهَا الْأَمِيرُ ، رَمَيْتَهُمْ بِحَجَرِهِمْ ، وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ إِلَيْكَ حَتَّى نَظْفَرَ أَوْ نُقْتَلَ .
وَقَالَ لَهُ
قَبِيصَةُ بْنُ وَالِقٍ : إِنَّ النَّاسَ قَدْ تَحَدَّثُوا أَنَّ جَيْشًا قَدْ وَصَلَ إِلَيْكَ مِنَ
الشَّامِ ، وَأَنَّ
أَهْلَ الْكُوفَةِ قَدْ هُزِمُوا ، وَهَانَ عَلَيْهِمُ الْفِرَارُ ، فَقُلُوبُهُمْ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ فِيهِمْ ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى
أَهْلِ الشَّامِ لِيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ ، وَلَا يُبَيِّتُوا إِلَّا وَهُمْ مُحْتَاطُونَ ، فَإِنَّكَ تُحَارِبُ حُوَّلًا قُلَّبًا ظَعَّانًا رَحَّالًا ، وَقَدْ جَهَّزْتَ إِلَيْهِمْ
أَهْلَ الْكُوفَةِ ، وَلَسْتَ وَاثِقًا بِهِمْ كُلَّ الثِّقَةِ ، وَإِنَّ
شَبِيبًا بَيْنَا هُوَ فِي أَرْضٍ إِذَا هُوَ فِي أُخْرَى ، وَلَا آمَنُ أَنْ يَأْتِيَ
أَهْلَ الشَّامِ وَهُمْ آمِنُونَ ، فَإِنْ يَهْلِكُوا نَهْلِكْ وَيَهْلِكِ
الْعِرَاقُ .
قَالَ لَهُ : لِلَّهِ أَبُوكَ ، مَا أَحْسَنَ مَا أَشَرْتَ بِهِ ! وَأَرْسَلَ إِلَى
الشَّامِ يُحَذِّرُهُمْ ، وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَأْتُوا عَلَى
عَيْنِ التَّمْرِ . فَفَعَلُوا .
وَقَدِمَ
عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ، فَبَعَثَهُ
الْحَجَّاجُ عَلَى ذَلِكَ الْجَيْشِ ، فَعَسْكَرَ
بِحَمَّامِ [ ص: 457 ] أَعْيَنَ ، وَأَقْبَلَ
شَبِيبٌ حَتَّى انْتَهَى إِلَى
كَلْوَاذَى ، فَقَطَعَ فِيهَا
دِجْلَةَ ، ( ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ مَدِينَةَ
بَهُرَسِيرَ الدُّنْيَا ، فَصَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
مُطَرِّفٍ [
جِسْرُ ] دِجْلَةَ ) ، وَقَطَعَ
مُطَرِّفٌ الْجِسْرَ وَبَعَثَ إِلَى
شَبِيبٍ : أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ رِجَالًا مِنْ وُجُوهِ أَصْحَابِكَ أُدَارِسُهُمُ الْقُرْآنَ ، وَأَنْظُرُ فِيمَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ . فَبَعَثَ إِلَيْهِ
قَعْنَبَ بْنَ سُوَيْدٍ وَالْمُحَلِّلَ وَغَيْرَهُمَا ، وَأَخَذَ مِنْهُ رَهَائِنَ إِلَى أَنْ يَعُودُوا ، فَأَقَامُوا عِنْدَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ ، ثُمَّ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى شَيْءٍ . فَلَمَّا لَمْ يَتْبَعْهُ
مُطَرِّفٌ تَهَيَّأَ لِلْمَسِيرِ إِلَى
عَتَّابٍ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : إِنِّي كُنْتُ عَازِمًا أَنْ آتِيَ
أَهْلَ الشَّامِ جَرِيدَةً ، وَأَلْقَاهُمْ عَلَى غِرَّةٍ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلُوا بِأَمِيرٍ مِثْلِ
الْحَجَّاجِ ،
وَمِصْرٍ مِثْلِ
الْكُوفَةِ ، فَثَبَّطَنِي عَنْهُمْ
مُطَرِّفٌ ، وَقَدْ جَاءَتْنِي عُيُونِي ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ أَوَائِلَهُمْ قَدْ دَخَلُوا
عَيْنَ التَّمْرِ ، فَهُمُ الْآنَ قَدْ شَارَفُوا
الْكُوفَةَ ، وَقَدْ أَخْبَرُونِي أَنَّ
عَتَّابًا وَمَنْ مَعَهُ
بِالْبَصْرَةِ ، فَمَا أَقْرَبُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ ، فَتَيَسَّرُوا لِلْمَسِيرِ إِلَى
عَتَّابٍ .
وَخَافَ
مُطَرِّفُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَنْ يَبْلُغَ خَبَرُهُ مَعَ
شَبِيبٍ إِلَى
الْحَجَّاجِ ، فَخَرَجَ نَحْوَ الْجِبَالِ . فَأَرْسَلَ
شَبِيبٌ أَخَاهُ مُصَادًا إِلَى
الْمَدَائِنِ وَعَقَدَ الْجِسْرَ ، وَأَقْبَلَ
عَتَّابٌ إِلَيْهِ حَتَّى نَزَلَ بِسُوقِ حَكَمَةَ ، وَقَدْ خَرَجَ مَعَهُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ أَرْبَعُونَ أَلْفًا ، وَمِنَ الشَّبَابِ وَالْأَتْبَاعِ عَشَرَةُ آلَافٍ ، فَكَانُوا خَمْسِينَ أَلْفًا ، وَكَانَ
الْحَجَّاجُ قَدْ قَالَ لَهُمْ حِينَ سَارُوا : إِنَّ لِلسَّائِرِ الْمُجْتَهِدِ الْكَرَامَةَ وَالْأَثَرَةَ ، وَلِلْهَارِبِ الْهَوَانَ وَالْجَفْوَةَ ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَئِنْ فَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ كَفِعْلِكُمْ فِي الْمَوَاطِنِ الْأُخَرِ لَأُوَلِّيَنَّكُمْ كَنَفًا خَشِنًا ، وَلَأُعْرِكَنَّكُمْ بِكَلْكَلٍ ثَقِيلٍ .
فَلَمَّا بَلَغَ
عَتَّابٌ سُوقَ حَكَمَةَ أَتَاهُ
شَبِيبٌ ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ
بِالْمَدَائِنِ أَلْفَ رَجُلٍ ، فَحَثَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ ، وَسَارَ بِهِمْ ، فَتَخَلَّفَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ
بِسَابَاطَ ، وَصَلَّى الْعَصْرَ وَسَارَ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى
عَتَّابٍ وَعَسْكَرِهِ ، فَلَمَّا رَآهُمْ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ، وَكَانَ
عَتَّابٌ قَدْ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ ، فَجَعَلَ فِي الْمَيْمَنَةِ
مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ ، وَقَالَ : يَا ابْنَ أَخِي ، إِنَّكَ شَرِيفٌ صَابِرٌ . فَقَالَ : وَاللَّهِ لَأَصْبِرَنَّ مَا ثَبَتَ مَعِيَ إِنْسَانٌ . وَقَالَ
لِقَبِيصَةَ بْنِ وَالِقٍ الثَّعْلَبِيِّ : اكْفِنِي الْمَيْسَرَةَ . فَقَالَ : أَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ، لَا أَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ إِلَّا أَنْ أُقَامَ . فَجَعَلَ عَلَيْهَا
نُعَيْمَ بْنَ عُلَيْمٍ ، وَبَعَثَ
حَنْظَلَةَ بْنَ الْحَارِثِ الْيَرْبُوعِيَّ ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ وَشَيْخُ أَهْلِ بَيْتِهِ ، عَلَى الرَّجَّالَةِ ، وَصَفَّهُمْ ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ : صَفٌّ فِيهِمْ أَصْحَابُ السُّيُوفِ ، وَصَفٌّ فِيهِمْ أَصْحَابُ الرِّمَاحِ ، وَصَفٌّ فِيهِمُ الرُّمَاةُ ، ثُمَّ سَارَ فِي النَّاسِ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَيَقُصُّ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ قَالَ : أَيْنَ الْقَصَّاصُ ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ . ثُمَّ قَالَ : أَيْنَ مَنْ يَرْوِي شِعْرَ
عَنْتَرَةَ ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ . فَقَالَ : إِنَّا لِلَّهِ ، كَأَنِّي بِكُمْ قَدْ فَرَرْتُمْ عَنْ
عَتَّابِ بْنِ وَرْقَاءَ ، وَتَرَكْتُمُوهُ تَسْفِي فِي اسْتِهِ الرِّيحُ !
[ ص: 458 ] ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى جَلَسَ فِي الْقَلْبِ وَمَعَهُ
زُهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ جَالِسٌ ،
nindex.php?page=showalam&ids=12582وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ ،
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَهْمٍ الْعَدَوِيُّ . وَأَقْبَلَ
شَبِيبٌ وَهُوَ فِي سِتِّمِائَةٍ وَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِهِ أَرْبَعُمِائَةٍ ، فَقَالَ : لَقَدْ تَخَلَّفَ عَنَّا مَنْ لَا أُحِبُّ أَنْ يَرَى فِينَا ، فَجَعَلَ
سُوَيْدَ بْنَ سُلَيْمٍ فِي مِائَتَيْنِ فِي الْمَيْسَرَةِ ، وَجَعَلَ
الْمُحَلِّلَ بْنَ وَائِلٍ فِي مِائَتَيْنِ فِي الْقَلْبِ ، وَمَضَى هُوَ فِي مِائَتَيْنِ إِلَى الْمَيْمَنَةِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ حِينَ أَضَاءَ الْقَمَرُ ، فَنَادَاهُمْ : لِمَنْ هَذِهِ الرَّايَاتُ ؟ فَقَالُوا : رَايَاتٌ
لِرَبِيعَةَ . قَالَ : طَالَمَا نَصَرَتِ الْحَقَّ ، وَطَالَمَا نَصَرَتِ الْبَاطِلَ ، وَاللَّهِ لَأُجَاهِدَنَّكُمْ مُحْتَسِبًا ، أَنَا
شَبِيبٌ ، لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ ، لِلْحَكَمِ ، اثْبُتُوا إِنْ شِئْتُمْ ! ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ فَفَضَّهُمْ ، فَثَبَتَ أَصْحَابُ رَايَاتِ
قَبِيصَةَ بْنِ وَالِقٍ ،
وَعُبَيْدِ بْنِ الْحُلَيْسِ ،
وَنُعَيْمِ بْنِ عُلَيْمٍ فَقُتِلُوا ، وَانْهَزَمَتِ الْمَيْسَرَةُ كُلُّهَا ، وَنَادَى النَّاسُ مِنْ
بَنِي ثَعْلَبَةَ : قُتِلَ
قَبِيصَةُ ! وَقَالَ
شَبِيبٌ : قَتَلْتُمُوهُ ، وَمِثْلَهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=175وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا . ثُمَّ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ : وَيْحَكَ لَوْ ثَبَتَّ عَلَى إِسْلَامِكَ الْأَوَّلِ سَعِدْتَ ! وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : إِنَّ هَذَا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ ، ثُمَّ جَاءَ يُقَاتِلُكُمْ مَعَ الْفَسَقَةِ .
ثُمَّ إِنَّ
شَبِيبًا حَمَلَ مِنَ الْمَيْسَرَةِ عَلَى
عَتَّابٍ ، وَحَمَلَ
سُوَيْدُ بْنُ سُلَيْمٍ عَلَى الْمَيْمَنَةِ ، وَعَلَيْهِمَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، فَقَاتَلَهُمْ فِي رِجَالٍ مِنْ
تَمِيمٍ وَهَمْدَانَ ، فَمَا زَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى قِيلَ لَهُمْ قُتِلَ
عَتَّابٌ ، فَانْفَضُّوا .
وَلَمْ يَزَلْ
عَتَّابٌ جَالِسًا عَلَى
طَنْفَسَةٍ فِي الْقَلْبِ وَمَعَهُ
زُهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ إِذْ غَشِيَهُمْ
شَبِيبٌ ، فَقَالَ لَهُ
عَتَّابٌ : يَا
زُهْرَةُ ، هَذَا يَوْمٌ كَثُرَ فِيهِ الْعَدَدُ ، وَقَلَّ فِيهِ الْغَنَاءُ ، وَالَهَفِي عَلَى خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ
تَمِيمٍ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ ، أَلَا صَابِرٌ لِعَدُوِّهِ ؟ أَلَا مُوَاسٍ بِنَفْسِهِ ؟ فَانْفَضُّوا عَنْهُ وَتَرَكُوهُ ، فَقَالَ [ لَهُ ]
زُهْرَةُ : أَحْسَنْتَ يَا
عَتَّابُ ، فَعَلْتَ فِعْلًا [ لَا يَفْعَلُهُ ] مِثْلُكَ . أَبْشِرْ ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - قَدْ أَهْدَى إِلَيْنَا الشَّهَادَةَ عِنْدَ فَنَاءِ أَعْمَارِنَا .
فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ
شَبِيبٌ وَثَبَ فِي عِصَابَةٍ قَلِيلَةٍ صَبَرَتْ مَعَهُ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=12582عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَشْعَثِ قَدْ هَرَبَ وَتَبِعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ . فَقَالَ : مَا رَأَيْتُ ذَلِكَ الْفَتَى يُبَالِي مَا صَنَعَ . ثُمَّ قَاتَلَهُمْ سَاعَةً ، فَرَآهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ
شَبِيبٍ يُقَالُ لَهُ
عَامِرُ بْنُ عُمَرَ التَّغْلِبِيُّ ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ ، وَوَطِئَتِ الْخَيْلُ
زُهْرَةَ بْنَ حَوِيَّةَ ، فَأَخَذَ يَذُبُّ بِسَيْفِهِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ ،
[ ص: 459 ] فَجَاءَهُ
الْفَضْلُ بْنُ عَامِرٍ الشَّيْبَانِيُّ فَقَتَلَهُ ، فَانْتَهَى إِلَيْهِ
شَبِيبٌ فَرَآهُ صَرِيعًا فَعَرَفَهُ ، فَقَالَ : هَذَا
زُهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتَ قُتِلْتَ عَلَى ضَلَالَةٍ لَرُبَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ حَسُنَ فِيهِ بَلَاؤُكَ ، وَعَظُمَ فِيهِ غَنَاؤُكَ ! وَلَرُبَّ خَيْلٍ لِلْمُشْرِكِينَ هَزَمْتَهَا ، وَقَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ جَمٍّ أَهْلُهَا قَدِ افْتَتَحْتَهَا ! ثُمَّ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّكَ تُقْتَلُ نَاصِرًا لِلظَّالِمِينَ . وَتَوَجَّعَ لَهُ . فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : إِنَّكَ لَتَتَوَجَّعُ لِرَجُلٍ كَافِرٍ . فَقَالَ : إِنَّكَ لَسْتَ بِأَعْرَفَ بِضَلَالَتِهِمْ مِنِّي ، وَلَكِنِّي أَعْرِفُ مِنْ قَدِيمِ أَمْرِهِمْ مَا لَا تَعْرِفُ ، مَا لَوْ ثَبَتُوا عَلَيْهِ لَكَانُوا إِخْوَانَنَا .
فَاسْتَمْسَكَ
شَبِيبٌ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ وَالنَّاسِ ، فَقَالَ : ارْفَعُوا السَّيْفَ ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْبَيْعَةِ ، فَبَايَعَهُ النَّاسُ وَهَرَبُوا مِنْ تَحْتِ لَيْلَتِهِمْ ، وَحَوَى مَا فِي الْعَسْكَرِ ، وَبَعَثَ إِلَى أَخِيهِ فَأَتَاهُ مِنَ
الْمَدَائِنِ . وَأَقَامَ
شَبِيبٌ بَعْدَ الْوَقْعَةِ
بِبَيْتِ قُرَّةَ يَوْمَيْنِ ، ثُمَّ سَارَ نَحْوَ
الْكُوفَةِ ، فَنَزَلَ
بُسُورَا وَقَتَلَ عَامِلَهَا .
وَكَانَ
سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ وَعَسْكَرُ
الشَّامِ قَدْ دَخَلُوا
الْكُوفَةَ ، فَشَدُّوا ظَهْرَ الْحَجَّاجِ وَاسْتَغْنَى بِهِ وَبِعَسْكَرِهِ عَنْ
أَهْلِ الْكُوفَةِ ، فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ : يَا
أَهْلَ الْكُوفَةِ ، لَا أَعَزَّ اللَّهُ مَنْ أَرَادَ بِكُمُ الْعِزَّ ، وَلَا نَصَرَ مَنْ أَرَادَ بِكُمُ النَّصْرَ ، اخْرُجُوا عَنَّا فَلَا تَشْهَدُوا مَعَنَا قِتَالَ عَدُوِّنَا ، انْزِلُوا
بِالْحِيرَةِ مَعَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، وَلَا يُقَاتِلْ مَعَنَا إِلَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْ قِتَالَ
عَتَّابٍ .