الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر استيلاء الديلم على أذربيجان

كانت أذربيجان بيد ديسم بن إبراهيم الكردي ، وكان قد صحب يوسف بن أبي الساج ، وخدم وتقدم حتى استولى على أذربيجان ، وكان يقول بمذهب الشراة هو وأبوه ، وكان أبوه من أصحاب هارون الشاري ، فلما قتل هارون ، هرب إلى أذربيجان ، وتزوج ابنة رئيس من أكرادها ، فولدت له ديسم ، فانضم إلى أبي الساج ، فارتفع وكبر شأنه ، وتقدم إلى أن ملك أذربيجان بعد يوسف بن أبي الساج ، وكان معظم جيوشه الأكراد ، إلا نفرا يسيرا من الديلم من عسكر وشمكير ، أقاموا عنده حين صحبوه إلى أذربيجان .

ثم إن الأكراد تقووا ، وتحكموا عليه ، وتغلبوا على بعض قلاعه وأطراف بلاده ، فرأى أن يستظهر عليهم بالديلم ، فاستكثر ذلك منهم ، وكان فيهم صعلوك بن محمد بن مسافر ، وعلي بن الفضل وغيرهما ، فأكرمهم ديسم ، وأحسن إليهم ، وانتزع من الأكراد ما تغلبوا عليه من بلاده ، وقبض على جماعة من رؤسائهم .

[ ص: 108 ] وكان وزيره أبا القاسم علي بن جعفر ، وهو من أهل أذربيجان ، فسعى به أعداؤه ، فأخافه ديسم ، فهرب إلى الطرم إلى محمد بن مسافر ، فلما وصل إليه رأى ابنيه وهسوذان والمرزبان قد استوحشا منه ، واستوليا على بعض قلاعه ، وكان سبب وحشتهما سوء معاملته معهما ومع غيرهما ، ثم إنهما قبضا على أبيهما محمد بن مسافر ، وأخذوا أمواله وذخائره ، وبقي في حصن آخر وحيدا فريدا بغير مال ولا عدة ، فرأى علي بن جعفر الحال ، فتقرب إلى المزربان وخدمه وأطعمه في أذربيجان ، وضمن له تحصيل أموال كثيرة يعرف هو وجوهها ، فقلده وزارته .

وكان يجمعهما مع الذي ذكرنا أنهما كانا مع الشيعة ، فإن علي بن جعفر كان من دعاة الباطنية ، والمزربان مشهور بذلك ، وكان ديسم كما ذكرنا يذهب إلى مذهب الخوارج في بغض علي ، عليه السلام . فنفر عنه من عنده من الديلم ، وابتدأ علي بن جعفر فكاتب من يعلم أنه يستوحش من ديسم يستميله ، إلى أن أجابه أكثر أصحابه ، وفسدت قلوبهم على ديسم ، وخاصة الديلم ، وسار المرزبان إلى أذربيجان ، وسار ديسم إليه ، فلما التقيا للحرب عاد الديلم إلى المرزبان ، وتبعهم كثير من الأكراد مستأمنين ، فحمل المرزبان على ديسم ، فهرب في طائفة يسيرة من أصحابه إلى أرمينية ، واعتصم بحاجيق بن الديراني ، لمودة بينهما ، فأكرمه واستأنف ديسم يؤلف الأكراد ، وكان أصحابه يشيرون عليه بإبعاد الديلم لمخالفتهم إياه في الجنس والمذهب ، فعصاهم وملك المرزبان أذربيجان ، واستقام أمره إلى أن فسد ما بينه وبين وزيره علي بن جعفر .

وكان سبب الوحشة بينهما أن عليا أساء السيرة مع أصحاب المرزبان ، ( فتضافروا عليه ، فأحس بذلك ، فاحتال على المرزبان ) فأطمعه في أموال كثيرة يأخذها له من بلد تبريز ، فضم جندا من الديلم وسيرهم إليها ، فاستمال أهل البلد ، فعرفهم أن المرزبان إنما سيره إليهم ليأخذ أموالهم ، وحسن لهم قتل من عندهم من الديلم ، ومكاتبة ديسم ليقدم عليهم ، فأجابوه إلى ذلك .

[ ص: 109 ] وكاتب ديسم ، ووثب أهل البلد بالديلم فقتلوهم ، وسار ديسم فيمن اجتمع إليه من العسكر إلى تبريز ، وكان المرزبان قد أساء إلى من استأمن إليه من الأكراد ، فلما سمعوا بديسم أنه يريد تبريز ساروا إليه ، فلما اتصل ذلك بالمرزبان ، ندم على إيحاش علي بن جعفر ، ثم جمع عسكره وسار إلى تبريز ، فتحارب هو وديسم بظاهر تبريز ، فانهزم ديسم والأكراد ، وعادوا فتحصنوا بتبريز ، وحصرهم المرزبان وأخذ في إصلاح علي بن جعفر ومراسلته ، وبذل له الأيمان على ما يريده ، فأجابه علي : إنني لا أريد من جميع ما بذلته إلا السلامة وترك العمل ، فأجابه إلى ذلك وحلف له .

واشتد الحصار على ديسم ، فسار من تبريز إلى أردبيل ، ( وخرج علي بن جعفر إلى المزربان ، فساروا إلى أردبيل ) وترك المرزبان على تبريز من يحصرها ، وحصر هو ديسم بأردبيل ، فلما طال الحصار عليه طلب الصلح ، وراسل المرزبان في ذلك ، فأجابه إليه ، فاصطلحا وتسلم المرزبان أردبيل ، فأكرم ديسم وعظمه ، ووفى له بما حلف له عليه ، ثم إن ديسم خاف على نفسه من المرزبان ، فطلب منه أن يسيره إلى قلعته بالطرم فيكون فيها هو وأهله ، ويقنع بما يتحصل له منها ، ولا يكلفه شيئا آخر ، ففعل المرزبان ذلك ، وأقام ديسم بقلعته هو وأهله .

التالي السابق


الخدمات العلمية