في هذه السنة سار من المعز لدين الله العلوي إفريقية ( يريد الديار المصرية ) .
وكان أول مسيره أواخر شوال من سنة إحدى وستين وثلاثمائة ، وكان أول رحيله من المنصورية ، فأقام بسردانية ، وهي قرية قريبة من القيروان ، ولحقه بها رجاله ، وعماله وأهل بيته وجميع ما كان له في قصره من أموال وأمتعة وغير ذلك ، حتى إن الدنانير سكبت وجعلت كهيئة الطواحين وحمل كل طاحونتين على جمل .
وسار عنها واستعمل على بلاد إفريقية يوسف بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي الحميري ، إلا أنه لم يجعل له حكما على جزيرة صقلية ، ولا على مدينة طرابلس الغرب ، ولا على أجدابية ، وسرت ، وجعل على ( صقلية حسن بن ) علي بن أبي الحسين ، على ما قدمنا ذكره ، وجعل على طرابلس عبد الله بن يخلف الكتامي ، وكان أثيرا عنده وجعل على جباية أموال إفريقية زيادة الله بن زياد بن القديم ، وعلى الخراج عبد الجبار الخراساني ، وحسين بن خلف الموصدي ، وأمرهم بالانقياد ليوسف بن زيري .
فأقام بسردانية أربعة أشهر حتى فرغ من جميع ما يريد ، ثم رحل عنها ، ومعه يوسف بلكين وهو يوصيه بما يفعله ، ونحن نذكر من سلف يوسف بلكين وأهله ما تمس الحاجة إليه ، ورد يوسف إلى أعماله ، وسار إلى طرابلس ومعه جيوشه وحواشيه ، فهرب منه بها جمع من عسكره إلى جبال نفوسة فطلبهم فلم يقدر عليهم .
ثم سار إلى مصر ، فلما وصل إلى برقة ومعه محمد بن هانئ الشاعر الأندلسي ، قتل غيلة ، فرؤي ملقى على جانب البحر قتيلا لا يدرى من قتله ، وكان قتله أواخر رجب [ ص: 305 ] من سنة اثنتين وستين وثلاثمائة ، وكان من الشعراء المجيدين إلا أنه غالى في مدح المعز حتى كفره العلماء ، فمن ذلك قوله :
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
وقوله : ( )
ولطال ما زاحمت حول ركابه جبريلا
ومن ذلك ما ينسب إليه ولم أجدها في ديوانه قوله :
حل برقادة المسيح حل بها آدم ونوح
حل بها الله ذو المعالي فكل شىء سواه ريح
ورقادة اسم مدينة بالقرب من القيروان ، إلى غير ذلك ، وقد تأول ذلك من يتعصب له ، والله أعلم ، وبالجملة فقد جاز حد المديح .
ثم سار المعز حتى وصل إلى الإسكندرية أواخر شعبان من السنة ، وأتاه أهل مصر وأعيانها ، فلقيهم ، وأكرمهم ، وأحسن إليهم ، وسار فدخل القاهرة خامس شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة ، وأنزل عساكره مصر والقاهرة في الديار ، وبقي كثير منهم في الخيام .
وأما يوسف بلكين فإنه لما عاد من وداع المعز أقام بالمنصورية يعقد الولايات للعمال على البلاد ، ثم سار في البلاد ، وباشر الأعمال ، وطيب قلوب الناس ، فوثب أهل باغاية على عامله فقاتلوه فهزموه ، فسير إليهم يوسف جيشا فقاتلهم فلم يقدر عليهم ، [ ص: 306 ] فأرسل إلى يوسف يعرفه الحال فتأهب يوسف ، وجمع العساكر ليسير إليهم ، فبينما هو في التجهز أتاه الخبر عن تاهرت أن أهلها قد عصوا ، وخالفوا ، وأخرجوا عامله ، فرحل إلى تاهرت فقاتلها ، فظفر بأهلها ، وخربها ، فأتاه الخبر بها أن زناتة قد نزلوا على تلمسان ، فرحل إليهم ، فهربوا منه ، وأقام على تلمسان فحصرها مدة ثم نزلوا على حكمه فعفا عنهم ، إلا أنه نقلهم إلى مدينة أشير ، فبنوا عندها مدينة سموها تلمسان .
ثم إن زيادة الله بن القديم جرى بينه وبين عامل آخر كان معه ، اسمه عبد الله بن محمد الكاتب ، منافسة صارت إلى محاربة ، واجتمع مع كل واحد منهما جماعة ، وكان بينهما حروب عدة دفعات ، وكان يوسف بلكين مائلا مع عبد الله لصحبة قديمة بينهما ، ثم إن أبا عبد الله قبض على ابن القديم وسجنه واستبد بالأمور بعده ، وبقي ابن القديم محبوسا حتى توفي المعز بمصر ، وقوي أمر يوسف بلكين .
وفي سنة أربع وستين [ وثلاثمائة ] طلع خلف بن حسين إلى قلعة منيعة ، فاجتمع إليه خلق كثير من البربر وغيرهم ، وكان من أصحاب ابن القديم المساعدين له ، فسمع يوسف بذلك ، فسار إليه ونازل القلعة وحاربه ، فقتل بينهما عدة قتلى ، وافتتحها ، وهرب خلف بن حسين ، وقتل ممن كان بها خلق كثير ، وبعث إلى القيروان من رءوسهم سبعة آلاف رأس ، ثم أخذ خلف وأمر به فطيف به على جمل ، ( ثم صلب ) وسير رأسه إلى مصر ، فلما سمع أهل باغاية بذلك خافوا ، فصالحوا يوسف ونزلوا على حكمه ، فأخرجهم من باغاية وخرب سورها .