الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال تعالى : ( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ) ( ( 35 ) ) .

قوله تعالى : ( اسكن أنت وزوجك ) : أنت توكيد للضمير في الفعل أتى به ليصح العطف عليه والأصل في : كل أأكل مثل اقتل إلا أن العرب حذفت الهمزة الثانية تخفيفا ، ومثله خذ ولا يقاس عليه ، فلا تقول في الأمر من أجر يأجر جر . وحكى سيبويه أوكل شاذا . ( منها ) : أي من ثمرتها ; فحذف المضاف وموضعه نصب بالفعل قبله ومن لابتداء الغاية .

و ( رغدا ) : صفة مصدر محذوف ; أي أكلا رغدا ; أي طيبا هنيئا .

ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال ، تقديره كلا مستطيبين متهنئين .

( حيث ) : ظرف مكان ، والعامل فيه كلا . ويجوز أن يكون بدلا من الجنة ، فيكون حيث مفعولا به ; لأن الجنة مفعول ، وليس بظرف ; لأنك تقول سكنت البصرة وسكنت الدار بمعنى نزلت ، فهو كقولك انزل من الدار حيث شئت . ( هذه الشجرة ) : الهاء بدل من الياء في هذي ; لأنك تقول في المؤنث هذي وهاتا وهاتي والياء للمؤنث مع [ ص: 49 ] الذال لا غير ، والهاء بدل منها ; لأنها تشبهها في الخفاء والشجرة نعت لهذه . وقرئ في الشاذ : " هذه الشيرة " وهي لغة أبدلت الجيم فيها ياء لقربها منها في المخرج .

( فتكونا ) : جواب النهي لأن التقدير : إن تقربا تكونا وحذف النون هنا علامة النصب ; جواب النهي إذا كان بالفاء فهو منصوب ، ويجوز أن يكون مجزوما بالعطف .

قال تعالى : ( فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ( 36 ) ) .

قوله تعالى : ( فأزلهما ) : يقرأ بتشديد اللام من غير ألف ; أي حملهما على الزلة ; ويقرأ : فأزالهما أي نحاهما ، وهو من قولك : زال الشيء يزول ، إذا فارق موضعه ، وأزلته نحيته ، وألفه منقلبة عن واو .

( مما كانا فيه ) : ما بمعنى الذي ، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة أي من نعيم أو عيش : اهبطوا ، الجمهور على كسر الباء وهي اللغة الفصيحة ، وقرئ بضمها ، وهي لغة . ( بعضكم لبعض عدو ) : جملة في موضع الحال من الواو في اهبطوا ; أي اهبطوا متعادين واللام متعلقة بعدو ; لأن التقدير بعضكم عدو لبعض ويعمل عدو عمل الفعل لكن بحذف الجر ويجوز أن يكون صفة لعدو ; فلما تقدم عليه صار حالا .

ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة ، وأما إفراد عدو فيحتمل أن يكون لما كان بعضكم مفردا في اللفظ ، أفرد عدو ، ويحتمل أن يكون وضع الواحد موضع الجمع كما قال : ( فإنهم عدو لي ) : [ الشعراء : 77 ] .

( ولكم في الأرض مستقر ) : يجوز أن يكون مستأنفا ، ويجوز أن يكون حالا أيضا ، وتقديره اهبطوا متعادين مستحقين الاستقرار .

و ( مستقر ) : يجوز أن يكون مصدرا بمعنى الاستقرار ، ويجوز أن يكون مكان الاستقرار . و ( إلى حين ) : يجوز أن يكون في موضع رفع صفة لمتاع ; فيتعلق بمحذوف ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمتاع لأنه في حكم المصدر ; والتقدير : وأن تمتعوا إلى حين .

قال تعالى : ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ( 37 ) ) .

قوله تعالى : ( فتلقى آدم ) : يقرأ برفع آدم ونصب كلمات ، وبالعكس ; لأن كل ما تلقاك فقد تلقيته . و ( من ربه ) : يجوز أن يكون في موضع نصب بتلقى . ويكون لابتداء الغاية .

[ ص: 50 ] ويجوز أن يكون في موضع نصب صفة لكلمات ، تقديره : كلمات كائنة من ربه ، فلما قدمها انتصبت على الحال .

( إنه هو التواب ) : هو هاهنا مثل أنت في : ( إنك أنت العليم الحكيم ) وقد ذكر .

قال تعالى : ( قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 38 ) ) .

قوله : ( منها جميعا ) : حال ; أي مجتمعين ، إما في زمن واحد ، أو في أزمنة ، بحيث يشتركون في الهبوط . ( فإما ) : إن حرف شرط ، وما حرف مؤكد له . و ( يأتينكم ) : فعل الشرط مؤكد بالنون الثقيلة ، والفعل يصير بها مبنيا أبدا .

وما جاء في القرآن من أفعال الشرط عقيب إما كله مؤكد بالنون ، وهو القياس ; لأن زيادة ما تؤذن بإرادة شدة التوكيد وقد جاء في الشعر غير مؤكد بالنون .

وجواب الشرط : فمن تبع وجوابه . ومن في موضع رفع بالابتداء ، والخبر تبع ، وفيه ضمير فاعل يرجع على من ، وموضع تبع جزم بمن ، والجواب : فلا خوف عليهم .

وكذلك كل اسم شرطت به وكان مبتدأ فخبره فعل الشرط لا جواب الشرط ; ولهذا يجب أن يكون فيه ضمير يعود على المبتدأ ، ولا يلزم ذلك الضمير في الجواب حتى لو قلت من يقم أكرم زيدا جاز ، ولو قلت من يقم زيدا أكرمه ، وأنت تعيد الهاء إلى من لم يجز .

وذهب قوم إلى أن الخبر هو فعل الشرط والجواب ; وقيل الخبر منهما ما كان فيه ضمير يعود على من . و ( خوف ) : مبتدأ وعليهم الخبر ، وجاء الابتداء بالنكرة لما فيه من معنى العموم بالنفي الذي فيه .

والرفع والتنوين هنا أوجه من البناء على الفتح لوجهين : أحدهما : أنه عطف عليه ما لا يجوز فيه إلا الرفع وهو قوله : ولا هم لأنه معرفة ولا لا تعمل في المعارف ، فالأولى أن يجعل المعطوف عليه كذلك ; ليتشاكل الجملتان كما قالوا في الفعل المشغول [ ص: 51 ] بضمير الفاعل ، نحو : قام زيد وعمرا كلمته ; فإن النصب في عمرو أولى ليكون منصوبا بفعل ، كما أن المعطوف عليه عمل فيه الفعل .

والوجه الثاني : من جهة المعنى ; وذلك بأن البناء يدل على نفي الخوف عنهم بالكلية ، وليس المراد ذلك بل المراد نفيه عنهم في الآخرة .

فإذا قيل : لم لا يكون وجه الرفع أن هذا الكلام مذكور في جزاء من اتبع الهدى ، ولا يليق أن ينفي عنهم الخوف اليسير ، ويتوهم ثبوت الخوف الكثير .

قيل : الرفع يجوز أن يضمر معه نفي الكثير ; تقديره : لا خوف كثير عليهم ، فيتوهم ثبوت القليل ، وهو عكس ما قدر في السؤال ، فبان أن الوجه في الرفع ما ذكرنا .

( هداي ) : المشهور إثبات الألف قبل الياء على اللفظ المفرد قبل الإضافة .

ويقرأ هدي - بياء مشددة - ووجهها أن ياء المتكلم يكسر ما قبلها في الاسم الصحيح ، والألف لا يمكن كسرها ; فقلبت ياء من جنس الكسرة ثم أدغمت .

التالي السابق


الخدمات العلمية