الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال تعالى : ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما ) ( 23 ) .

قوله تعالى : ( أمهاتكم ) : الهاء زائدة ، وإنما جاء ذلك فيمن يعقل ، فأما مالا يعقل فيقال أمات البهائم ، وقد جاء في كل واحدة منهما ما جاء في الآخر قليلا ؛ فيقال : أمات الرجال ، وأمهات البهائم . ( وبناتكم ) : لام الكلمة محذوفة ؛ ووزنه فعاتكم ؛ والمحذوف واو أو ياء ، وقد ذكرناه .

فأما بنت ، فالتاء فيها بدل من اللام المحذوفة ، وليست تاء التأنيث ؛ لأن تاء التأنيث لا يسكن ما قبلها ، وتقلب هاء في الوقف ، فبنات ليس بجمع بنت ؛ بل بنة ، وكسرت الباء تنبيها على المحذوف ، هذا عند الفراء ، وقال غيره : أصلها الفتح ، وعلى ذلك جاء جمعها ومذكرها وهو بنون ، وهو مذهب البصريين . وأما أخت فالتاء فيها بدل من الواو ؛ لأنها من الأخوة فأما جمعها فأخوات .

فإن قيل : لم رد المحذوف في أخوات ، ولم يرد في [ ص: 268 ] بنات ؟ . قيل : حمل كل واحد من الجمعين على مذكره ، فمذكر بنات لم يرد فيه المحذوف ؛ بل جاء ناقصا في الجمع ؛ فقالوا بنون ؛ وقالوا في جمع أخ : إخوة وإخوان ، فرد المحذوف والعمة تأنيث للعم والخالة تأنيث الخال ، وألفه منقلبة عن واو ؛ لقولك في الجمع أخوال . ( من الرضاعة ) : في موضع الحال من أخواتكم ؛ أي : وحرمت عليكم أخواتكم كائنات من الرضاعة . ( اللاتي دخلتم بهن ) : نعت لنسائكم التي تليها ، وليست صفة لنسائكم التي في قوله : " وأمهات نسائكم " لوجهين أحدهما أن نساءكم الأولى مجرورة بالإضافة ، ونساءكم الثانية مجرورة بمن ، فالجران مختلفان ، وما هذا سبيله لا تجري عليه الصفة كما إذا اختلف العمل . والثاني : أن أم المرأة تحرم بنفس العقد عند الجمهور ، وبنتها لا تحرم إلا بالدخول ، فالمعنى مختلف . ( و من نسائكم ) : في موضع الحال من ربائبكم ، وإن شئت من الضمير في الجار الذي هو صلة ؛ تقديره : اللاتي استقررن في حجوركم كائنات من نسائكم . ( وأن تجمعوا ) : في موضع رفع عطفا على أمهاتكم . و ( إلا ما قد سلف ) : استثناء منقطع في موضع نصب .

قال تعالى : ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما ) ( 24 ) .

قوله تعالى : ( والمحصنات ) : هو معطوف على " أمهاتكم " و " من النساء " حال منه .

والجمهور على فتح الصاد هنا ؛ لأن المراد بهن ذوات الأزواج ، وذات الزوج محصنة بالفتح ؛ لأن زوجها أحصنها ؛ أي : أعفها ؛ فأما المحصنات في غير هذا الموضع فيقرأ بالفتح والكسر ، وكلاهما مشهور ، فالكسر على أن النساء أحصن فروجهن أو أزواجهن ، والفتح على أنهن أحصن بالأزواج أو بالإسلام ، واشتقاق الكلمة من التحصين وهو المنع .

( إلا ما ملكت ) : استثناء متصل في موضع نصب ، والمعنى حرمت عليكم ذوات [ ص: 269 ] الأزواج إلا السبايا فإنهن حلال ، وإن كن ذوات أزواج . ( كتاب الله ) : هو منصوب على المصدر بكتب محذوفة ، دل عليه قوله : " حرمت " ؛ لأن التحريم كتب . وقيل : انتصابه بفعل محذوف تقديره : الزموا كتاب الله . و ( عليكم ) : إغراء .

وقال الكوفيون : هو إغراء ، والمفعول مقدم ، وهذا عندنا غير جائز ؛ لأن عليكم وبابه عامل ضعيف ، فليس له في التقديم تصرف ، وقرئ " كتب عليكم " ؛ أي : كتب الله ذلك عليكم ، وعليكم على القول الأول متعلق بالفعل الناصب للمصدر لا بالمصدر ؛ لأن المصدر هنا فضلة . وقيل : هو متعلق بنفس المصدر ؛ لأنه ناب عن الفعل حيث لم يذكر معه ، فهو كقولك : مرورا بزيد ؛ أي : امرر . ( وأحل لكم ) : يقرأ بالفتح على تسمية الفاعل ، وهو معطوف على الفعل الناصب لكتاب ، وبالضم عطفا على حرمت . ( ما وراء ذلكم ) : في ما وجهان : أحدهما : هي بمعنى من ؛ فعلى هذا يكون قوله : " أن تبتغوا " في موضع جر أو نصب على تقدير بأن تبتغوا ، أو لأن تبتغوا ؛ أي : أبيح لكم غير ما ذكرنا من النساء بالمهور . والثاني : أن " ما " بمعنى الذي ، والذي كناية عن الفعل ؛ أي : وأحل لكم تحصيل ما وراء ذلك الفعل المحرم ، وأن تبتغوا بدل منه ، ويجوز أن يكون أن تبتغوا في هذا الوجه مثله في الوجه الأول . و ( محصنين ) : حال من الفاعل في تبتغوا . ( فما استمتعتم ) : في " ما " وجهان : أحدهما : هي بمعنى من ، والهاء في " به " تعود على لفظها . والثاني : هي بمعنى الذي ، والخبر " فآتوهن " والعائد منه محذوف ؛ أي : لأجله ؛ فعلى الوجه الأول يجوز أن تكون شرطا ، وجوابها فآتوهن ، والخبر فعل الشرط وجوابه ، أو جوابه فقط على ما ذكرناه في غير موضع . ويجوز على الوجه الأول أن تكون بمعنى الذي ، ولا تكون شرطا بل في موضع رفع بالابتداء ، واستمتعتم صلة لها ، والخبر فآتوهن .

ولا يجوز أن تكون مصدرية لفساد المعنى ، ولأن الهاء في " به " تعود على ما ، والمصدرية لا يعود عليها ضمير . ( منهن ) : حال من الهاء في به . ( فريضة ) : مصدر لفعل محذوف ، أو في موضع الحال على ما ذكرنا في آية الوصية .

التالي السابق


الخدمات العلمية