الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم . . . . . . ( 183 ) ) .

[ ص: 123 ] قوله تعالى : ( كتب عليكم الصيام ) : المفعول القائم مقام الفاعل .

وفي موضع الكاف أربعة أوجه : أحدها : هي في موضع نصب صفة للكتب ; أي كتبا كما كتب ; فما على هذا الوجه مصدرية . والثاني : أنه صفة الصوم ; أي صوما مثل ما كتب ، فما على هذا بمعنى الذي ، أي صوما مماثلا للصوم المكتوب على من قبلكم ، وصوم هنا مصدر مؤكد في المعنى ; لأن الصيام بمعنى أن تصوموا صوما . والثالث : أن تكون الكاف في موضع حال من الصيام ; أي مشبها للذي كتب على من قبلكم . والرابع : أن يكون في موضع رفع صفة للصيام .

فان قيل : الجار والمجرور نكرة ، والصيام معرفة ، والنكرة لا تكون صفة للمعرفة .

قيل لما لم يرد بالصيام صياما معينا كان كالمنكر ، وقد ذكرنا نحو ذلك في الفاتحة ، ويقوي ذلك أن الصيام مصدر ، والمصدر جنس ، وتعريف الجنس قريب من تنكيره .

قال تعالى : ( أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ( 178 ) ) .

قوله تعالى : ( أياما معدودات ) : لا يجوز أن ينتصب بمصدر " كتب " الأولى لا على الظرف ، ولا على أنه مفعول به على السعة ; لأن الكاف في كما وصف لمصدر محذوف ، والمصدر إذا وصف لم يعمل ، وكذلك اسم الفاعل ، ولا يجوز أن ينتصب بالصيام المذكور في الآية ; لأنه مصدر ، وقد فرق بينه وبين أيام بقوله : " كما كتب " ويعمل فيه المصدر كالصلة ولا يفرق بين الصلة والموصول بأجنبي ، وإن جعلت صفة الصيام لم يجز أيضا ; لأن المصدر إذا وصف لا يعمل .

والوجه أن يكون العامل في أيام محذوفا تقديره : صوموا أياما فعلى هذا يكون أياما ظرفا ; لأن الظرف يعمل فيه المعنى ، ويجوز أن ينتصب أياما بكتب ; لأن الصيام مرفوع به ، وكما إما مصدر لكتب ، أو نعت للصيام وكلاهما لا يمنع عمل الفعل ، وعلى هذا يجوز أن يكون ظرفا ومفعولا به على السعة .

قوله تعالى : ( أو على سفر ) : في موضع نصب معطوفا على خبر كان تقديره أو كان مسافرا ; وإنما دخلت على هاهنا ; لأن المسافر عازم على إتمام سفره ، فينبغي أن يكون التقدير أو كان عازما على إتمام سفر ، وسفر هنا نكرة يراد به سفر معين وهو السفر إلى المسافة المقدرة في الشرع . ( فعدة ) : مبتدأ والخبر محذوف ; أي فعليه عدة ، وفيه حذف مضاف ; أي صوم عدة ، ولو قرئ بالنصب لكان مستقيما ، ويكون التقدير فليصم عدة .

[ ص: 124 ] وفي الكلام حذف تقديره : فأفطر فعليه . و ( من أيام ) : نعت لعدة و ( أخر ) : لا ينصرف للوصف والعدل عن الألف واللام ; لأن الأصل في فعلى صفة أن تستعمل في الجمع بالألف واللام ، كالكبرى والكبر ، والصغرى والصغر . ( يطيقونه ) : الجمهور على القراءة بالياء .

وقرئ : " يطوقونه " بواو مشددة مفتوحة ، وهو من الطوق الذي هو قدر الوسع ، والمعنى يكلفونه . ( فدية ) : يقرأ بالتنوين و " طعام " بالرفع بدلا منها ، أو على إضمار مبتدأ ; أي هي طعام . و ( مسكين ) : بالإفراد ، والمعنى أن ما يلزم بإفطار كل يوم إطعام مسكين واحد .

ويقرأ بغير تنوين . وطعام بالجر ، ومساكين بالجمع ، وإضافة الفدية إلى الطعام ، إضافة الشيء إلى جنسه ; كقولك خاتم فضة ; لأن طعام المسكين يكون فدية وغير فدية ، وإنما جمع المساكين ; لأنه جمع في قوله : " وعلى الذين يطيقونه " فقابل الجمع بالجمع ، ولم يجمع فدية ; لأمرين : أحدهما : أنها مصدر ، والهاء فيها لا تدل على المرة الواحدة ، بل هي للتأنيث فقط .

والثاني : أنه لما أضافها إلى مضاف إلى الجمع فهم منها الجمع ، والطعام هنا بمعنى الإطعام ، كالعطاء بمعنى الإعطاء ، ويضعف أن يكون الطعام هو المطعوم ; لأنه أضافه إلى المسكين ، وليس الطعام للمسكين قبل تمليكه إياه ، فلو حمل على ذلك لكان مجازا ; لأنه يكون تقديره فعليه إخراج طعام يصير للمساكين ولو حملت الآية عليه لم يمتنع ; لأن حذف المضاف جائز وتسمية الشيء بما يئول إليه جائز .

( فهو خير له ) : الضمير يرجع إلى التطوع ، ولم يذكر لفظه بل هو مدلول عليه بالفعل . ( وأن تصوموا ) : في موضع رفع مبتدأ ; و " خير " خبره ; و " لكم " نعت لخير و " إن كنتم " شرط محذوف الجواب والدال على المحذوف أن تصوموا .

التالي السابق


الخدمات العلمية