الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولو حلف ليقضيه حقه لوقت إلا أن يشاء أن يؤخره ، فمات قبل يشاء أن يؤخره أنه لا حنث عليه ، وكذلك لو قال : إلا أن يشاء فلان فمات فلان الذي جعل المشيئة إليه ( قال المزني ) هذا غلط ، ليس في موته ما يمنع إمكان بره ، وأصل قوله : إن أمكنه البر فلم يفعل حتى فاته الإمكان أنه يحنث ، وقد قال : لو حلف لا يدخل الدار إلا بإذن فلان ، فمات الذي جعل الإذن إليه ، أنه إن دخلها حنث ( قال المزني ) وهذا وذاك سواء " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهاتان مسألتان جمع المزني بينهما ، ونحن نذكر قبل شرحهما مسألتين ليكونا أصلا يتمهد به جواب مسائلهم ، فتصير المسائل أربعا .

                                                                                                                                            فالمسألة الأولى : أن يقول : والله لأقضينك حقك ، ولا يعين للقضاء وقتا ، فيكون بره معتبرا بقضائه قبل موت الغريم وصاحب الحق ، في قريب الزمان وبعيده سواء ؛ لأن إطلاق اليمين يتناول مدة الحياة ، فإن مات صاحب الحق قبل قضائه حنث الحالف ، وكذلك لو مات الغريم الحالف قبل القضاء حنث أيضا ، فيقع الحنث بموت كل واحد منهما قبل القضاء لحدوث الموت مع إمكان البر .

                                                                                                                                            والمسألة الثانية : أن يحلف لأقضينك حقك في يوم الجمعة ، فيجعل للقضاء وقتا ، فلا يبر الحالف إلا بقضائه فيه ، فإن قضاه قبل يوم الجمعة أو بعده حنث ، فلو مات الحالف قبل يوم الجمعة لم يحنث قولا واحدا لموته قبل إمكان بره ، وإن مات صاحب الحق قبل يوم الجمعة ، ففي حنث الحالف قولان من اختلاف قوليه فيمن حلف ليأكلن هذا الطعام غدا ، فهلك الطعام اليوم :

                                                                                                                                            أحدهما : يحنث .

                                                                                                                                            والثاني : وهو أصح ، لا يحنث ، وعليه يكون التفريع ، والفرق بين إطلاق اليمين ، فيحنث بموت كل واحد منهما ، وبين تقييدها بوقت ، فلا يحنث بموت كل واحد منهما قبل الوقت هو إمكان البر مع الإطلاق ، وتعذر إمكانه مع التوقيت .

                                                                                                                                            والمسألة الثالثة : وهي أولى المنصوصين أن يحلف ليقضينه حقه في يوم الجمعة ، إلا أن يشاء صاحب الحق أن يؤخره فبره معتبر بأحد شرطين : إما أن يشاء صاحب الحق أن يؤخره قبل انقضاء يوم الجمعة ، وإما أن يقضيه حقه في يوم الجمعة إلا أن مشيئة تأخيره حل ليمينه والقضاء بر في يمينه ، فإن مات الحالف قبل يوم الجمعة يحنث [ ص: 371 ] بفوات القضاء فيه ، وإن مات صاحب الحق قبل يوم الجمعة لم يحنث الحالف أيضا ، لكنه إن مات بعد مشيئته ارتفع الحنث بحل اليمين ، وإن مات قبل مشيئته ارتفع الحنث بتعذر إمكان البر ، وإن احتمل تخريج الحنث .

                                                                                                                                            والمسألة الرابعة : أن يحلف ليقضينه حقه في يوم الجمعة إلا أن يشاء زيد تأخيره ، فارتفاع حنثه يكون بأحد شرطين إما بمشيئة زيد للتأخير فتحل به اليمين ، وإما بقضاء الحق في يوم الجمعة فيبر في اليمين ، فإن مات الحالف قبل يوم الجمعة لم يحنث قولا واحدا ، وإن مات صاحب الحق قبله لم يحنث على الصحيح من المذهب ، وإن احتمل تخريج الحنث ، وإن مات زيد صاحب المشيئة - وهي مسألة الكتاب - فله قبل موته ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يموت بعد مشيئة التأخير ، فاليمين قد انحلت ولا يقع الحنث فيها بتأخير القضاء .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يموت قبل مشيئة التأخير ، فاليمين منعقدة ولا حنث عليه في الحال ؛ لأن زمان البر منتظر ، وهو بإمكان القضاء معتبر ، فإن قضاه في يوم الجمعة بر ، وإن لم يقضه حنث لإمكان البر ، فأما المزني فإنه لما رأى الشافعي رحمه الله قال في هذه المسألة : إنه لا يحنث بموت صاحب المشيئة كما لو كانت المشيئة مردودة إلى صاحب الحق ظن أنه جمع بينهما في سقوط الحنث بموتهما في الأحوال كلها ، فقال : كيف جمع بينهما في سقوط الحنث بموتهما والبر في موت صاحب الحق متعذر وفي موت صاحب المشيئة ممكن ؟ فيقال له : إنما جمع الشافعي رحمه الله بينهما في أن الحنث لا يقع في حال موتهما ؛ لأن وقت القضاء لم يأت فصارا فيه سواء في الحال ، وإن افترقا بتأخير القضاء ، فيحنث بتأخيره إذا كانت المشيئة إلى غير صاحب الحق ، ولا يجب تأخيره إذا كانت المشيئة إلى صاحب الحق بما علل المزني من تعذر القضاء بموت صاحب الحق أو إمكانه بموت غيره .

                                                                                                                                            والحال الثالثة من أحوال صاحب المشيئة قبل موته أن يقع الشك في مشيئته ، فلا يعلم هل شاء التأخير أو لم يشأه فالذي عليه جمهور أصحابنا ، وهو الصحيح أنه يجري عليه حكم من لم يشأ التأخير ؛ لأن الأصل عدم المشيئة حتى يعلم حدوثها ، فيكون الحكم على ما مضى .

                                                                                                                                            وحكى أبو علي بن أبي هريرة أنه يجري عليه حكم التأني ، فلا يحنث الحالف بتأخير القضاء اعتبارا بالظاهر من نص الشافعي ، واحتجاجا بأن الحنث لا يقع بالشك ، وهذا زلل : لأن اليمين منعقدة ، فلا تحل بالشك .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية