الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولو أذن لها وأشهد على ذلك فخرجت لم يحنث : لأنه قد أذن لها وإن لم تعلم كما لو كان عليه حق لرجل فغاب أو مات فجعله صاحب الحق في حل برئ غير أني أحب له في الورع لو أحنث نفسه : لأنها خرجت عاصية له عند نفسها ، وإن كان قد أذن لها " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح . إذا حلف بطلاقها أن لا تخرج إلا بإذنه ، وأذن لها ولم تعلم بالإذن حتى خرجت لم يحنث ، ولا يكون علمها بالإذن شرطا في البر . هذا مذهب الشافعي ، وبه قال أبو يوسف .

                                                                                                                                            وقال مالك وأبو حنيفة ومحمد : يحنث ، ويكون علمها بالإذن شرطا في البر ، استدلالا بأربعة معان :

                                                                                                                                            أحدها : أن الإذن تضمن الإعلام ، لقوله تعالى : وأذن في الناس بالحج [ الحج : 27 ] ، أي : أعلمهم بفرضه ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس : إذا حللت ، فآذنيني ، أي : أعلميني . وقول الشاعر :

                                                                                                                                            [ ص: 397 ]

                                                                                                                                            آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء

                                                                                                                                            أي : أعلمتنا ، فإذا ثبت بالشرع واللغة أن الإذن يتضمن الإعلام صار شرطا فيه ، فإن عدم لم يكمل الإذن ، فلم يقع به البر .

                                                                                                                                            والثاني : أن الإذن أمر يخالف ما بعده حكم ما قبله ، فجرى مجرى النسخ ، ثم ثبت أن العلم بالنسخ شرط في لزومه كذلك العلم بالإذن شرط في صحته .

                                                                                                                                            والثالث : أنه ألزمها بخروجه عن إذنه أن تكون مطيعة في الخروج ، فإذا لم تعلم بالإذن صارت عاصية بالخروج ، فلم يكن هو الخروج المأذون فيه ، فوجب أن يحنث به ، ويصير عدم علمها بالإذن جاريا مجرى عدم الإذن ، لوجود المعصية فيهما ، كمن باع ما لا يعلم أنه مالك له ، ثم علم أنه قد كان مالكا له ، كان بيعه باطلا ، وجرى عدم علمه بالملك مجرى عدم الملك .

                                                                                                                                            والرابع : أن الإذن يفتقر إلى آذن ومأذون له ، كالكلام الذي يفتقر إلى قائل ومستمع ، فلما كان المنفرد بالكلام يسلبه حكم الكلام ، وجب أن يكون المنفرد بالإذن يسلبه حكم الإذن .

                                                                                                                                            ودليلنا أربعة معان :

                                                                                                                                            أحدها : أن الإذن يختص بالآذن ، والعلم به مختص بالمأذون لها ، وشرط يمينه إنما كان معقودا على ما يختص به من الإذن دون ما يختص بها من العلم . ألا ترى أن اسم الإذن ينطلق على إذنه دون علمها ، فوجب أن يكون تفرده بالإذن موجبا لوجود الشرط ، فلا يقع به الحنث ، كما لو قال : إن قمت ، فأنت طالق ، طلقت بقيامه ، وإن لم تعلم .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو كان العلم شرطا في الإذن لكان وجوده من الحالف شرطا فيه ، كما كان وجود الإذن منه شرطا فيه ، فلما ثبت أنها لو علمت به من غيره صح ، ولو أذن لها غيره لم يصح ، دل على خروجه من حقوق الإذن ، وصح بمجرد القول .

                                                                                                                                            والثالث : أنه قد حظر الخروج عليها باليمين ، وأباحها الخروج بالإذن ، فصار عقدها جامعا بين حظر وإباحة ، والاستباحة إذا صادفت إباحة لم يعلم بها المستبيح جرى عليها حكم الإباحة دون الحظر ، كمن استباح مال رجل قد أباح له ، وهو لا يعلم [ ص: 398 ] بإباحته ، جرى على المال المبتدئ حكم الإباحة اعتبارا بالمبيح ، ولم يجر عليه الحظر اعتبارا بالمستبيح .

                                                                                                                                            كذلك حكم هذا الخروج .

                                                                                                                                            وتحريره : أنها استباحة بعد إباحة ، فلم يكن فقد العلم بها مؤثرا في حكمها كالمال .

                                                                                                                                            والرابع : أنها لا تعلم بإذنه ، لبعدها تارة ، ولنومها أخرى ، وقد وافقوا أنه لو أذن لها ، وهي نائمة ، فخرجت غير عالمة بإذنه لم يحنث ، كذلك إذا أذن لها ، وهي بعيدة ، فلم تعلم بإذنه حتى خرجت ، وجب أن لا يحنث .

                                                                                                                                            وتحريره : أنها يمين تعلق البر فيها بالإذن ، فوجب أن لا يكون عدم العلم به موجبا للحنث ، كالنائمة والناسية .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم الأول ، بأن الإذن يتضمن الإعلام استشهادا بما ذكروه ، فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الإعلام هو الإيذان دون الإذن ، وفرق بين الإذن والإيذان .

                                                                                                                                            والثاني : أن الإذن لو اقتضى الإعلام ، لاختص به الإذن دون غيره ، وهو لا يختص به ، فلم يكن من شرط إذنه .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم الثاني في النسخ ، فهو أن في اعتبار العلم به وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن النسخ يلزم مع عدم العلم به كالإذن ، فلم يكن فيه دليل .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لا يلزم إلا بعد العلم به ، كأهل قباء حين استداروا في صلاتهم ، وبنوا على ما تقدم قبل علمهم بنسخ بيت المقدس بالكعبة .

                                                                                                                                            فعلى هذا أن الفرق بينهما أن النسخ مختص بالتعبد الشرعي ، فلم يلزم إلا بعد العلم به ، لوجوب إبلاغه ، والإذن رافع للمنع ، فصار مرتفعا قبل العلم به .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم الثالث بأن اشتراط الإذن يقتضي خروجا تكون فيه مطيعة ، فهو انتقاضه بخروجها إن كانت ناسية لإذنه ، أو كانت نائمة عند إذنه هي قاصدة لمعصيته ، ولا يحنث به .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم الرابع بالمتكلم ، فهو فساد الجمع بينهما ؛ لأن المعتبر في كلام الغير الاستماع دون الإعلام والسماع ، وهم يعتبرون في الإذن الإعلام دون السماع والاستماع ، ففسد الجمع بينهما مع اختلاف مقصودهما .

                                                                                                                                            [ ص: 399 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية