الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولو وجبت عليه ، ونصفه عبد ونصفه حر ، وكان في يديه مال لنفسه لم يجزئه الصوم ، وكان عليه أن يكفر مما في يديه لنفسه ( قال المزني ) رحمه الله : إنما المال لنصفه الحر لا يملك منه النصف العبد شيئا ، فكيف يكفر بالمال نصف عبد لا يملك منه شيئا ، فأحق بقوله أنه كرجل موسر بنصف الكفارة ، فليس عليه إلا الصوم ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                                            قال الماوردي : قال المزني : إذا حنث عن نصفه حر ونصفه عبد لم يخل حاله من أن يكون بنصفه الحر موسرا أو معسرا ، فإن كان معسرا ففرضه التكفير بالصيام ؛ لأنه لما صام بالإعسار مع كمال حريته كان صيامه مع تبعيض الحرية أولى ، وإن كان بنصفه الحر موسرا ، فقد قال الشافعي هاهنا : كفر بالمال فقلب حكم الحرية على حكم الرق في الكفارة ، وإن كان يغلب حكم الرق على حكم الحرية في النكاح والطلاق والنفقة والميراث والشهادة . فاختلف أصحابنا في كفارته على ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : وهو قول طائفة منهم أنه يكفر بالمال على قوله في القديم أنه يملك إذا ملك وعليه خرج الجواب ، فأما على قوله في الجديد : إنه لا يملك إذا ملك فلا يكفر إلا بالصيام .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : - قاله المزني وساعده غيره من أصحابنا - أنه لا يكفر إلا بالصيام على القولين معا ، وأن ما ذهب إليه الشافعي من تكفيره بالمال مخالف لأصوله من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لما غلب فيما عدا الكفارة حكم الرق على الحرية وجب أن يكون كذلك في الكفارة .

                                                                                                                                            والثاني : ما ذكره المزني من أن نقصان المكفر إذا كان بعضه حرا مملوكا كنقصان التكفير ، إذا وجد بعض الإطعام وعدم بعضه ، فوجب أن يكون عجزه ببعض بدنه مع قدرته على جميع الكفارة كعجزه عن بعض الكفارة مع قدرته بجميع بدنه .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : وهو ظاهر المذهب وما عليه جمهور أصحابنا ، أنه لا يكفر إلا بالمال على القولين معا ؛ تغليبا لحكم الحرية على الرق ، وإن غلب حكم الرق على الحرية في غير الكفارة ، استدلالا بقول الله تعالى فمن لم يجد فصيام [ المائدة : 89 ] وهذا واحد فلم يجزه الصيام ؛ ولأن تكفير الحر الموسر بالمال وتكفير العبد القن بالصوم ، فلم يخل حال من تبعضت فيه الحرية والرق من ثلاثة أحوال ، إما أن يغلب حكم الحرية من تكفير بالمال ، أو يغلب حكم الرق في تكفيره .

                                                                                                                                            [ ص: 342 ] بالصيام ، أو ببعض تكفيره بالمال والصيام بحسب ما فيه من حرية ورق ، وقد أجمعوا على إبطال التبعيض ، فلم يبق إلا تغليب أحدها فكان تغليب الحرية على الرق في التكفير بالمال أولى من تغليب الرق على الحرية في التكفير بالصيام من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لما تغلب حرية بعضه في السراية إلى عتق جميعه تغلب حكمها في تكفيره .

                                                                                                                                            والثاني : أن التكفير بالمال أصل ، وبالصيام بدل ، ولذلك كان لمن فرضه الصيام أن يكفر بالمال ولم يجز لمن فرضه المال أن يكفر بالصيام ، فكان تغليب ما أوجب الأصل من المال أولى من تغليب ما أوجب البدل من الصيام ، أما تغليب الرق فيما سوى ذلك من الأحكام ، فلأن تبعيض الحرية والرق موجب لتغليب أغلظ حكميه ، فكان أغلظهما من الكفارة حكم الجزية ، وأغلظهما فيما عداها حكم الرق .

                                                                                                                                            وأما الجواب عما استدل به المزني من أن نقصان المكفر كنقصان الكفارة ، فهو أن نقصان الكفارة مفض إلى التبعيض فسقط ، ونقصان المكفر موجب لكمال الكفارة ، فافترقا في النقص لافتراقهما في الموجب ، والله أعلم بالصواب ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية