الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر ما ذكرنا في هذه المقدمة ، فصورة مسألتنا هذه أن يحلف ليأكلن هذا الطعام غدا ، أو ليركبن هذه الدابة غدا ، أو ليلبسن هذا الثوب غدا ، فلا يخلو حاله في ذلك من أربعة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يفعل ذلك في وقته .

                                                                                                                                            والثاني : أن يقدمه على وقته .

                                                                                                                                            والثالث : أن يؤخره عن وقته .

                                                                                                                                            والرابع : أن يفوته فعله في وقته .

                                                                                                                                            فأما القسم الأول : وهو أن يفعل ذلك في وقته ، وهو أن يأكل الطعام في غده ، ويركب الدابة ، ويلبس فيه الثوب ، فقد بر في يمينه إذا جعل ذلك ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس ؛ لأن الغد هو يوم يستوعب ما بين طلوع فجره وغروب شمسه ، وليس ما قبل طلوع الفجر وبعد غروب الشمس من الغد ولا هما وقت البر .

                                                                                                                                            وأما القسم الثاني : وهو أن يقدم فعل ذلك قبل وقته ، فهو أن يأكل الطعام في يومه ، ويركب فيه الدابة ، ويلبس فيه الثوب ، فلا يبر بذلك عند الشافعي ، ويحنث بالاقتصار على فعله فيه .

                                                                                                                                            وقال مالك وأبو حنيفة : يبر ولا يحنث ؛ لأن مقصود يمينه أن لا يؤخر فعل ذلك عن غده ، وهو في التقديم غير مؤخر له ، فبر فيه .

                                                                                                                                            ودليلنا هو أن البر مقيد بزمان ، فوجب أن يكون شرطا فيه كالمقيد بالمكان ؛ ولأنه لما كان تقديم المكان كتأخيره وجب أن يكون تقديم الزمان كتأخيره ، وإذا لم يبر بفعل [ ص: 369 ] ذلك في يومه ، فإن كان طعاما قد أكله حنث ، إذ لا سبيل له أن يأكله في غده إلا أن حنثه لا يقع إلا في غده ، وهل يتعلق حنثه بطلوع فجره أو بغروب شمسه ، على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يحنث بطلوع فجره ؛ لأنه أول وقت البر فيما فات ، فأشبه الصلاة التي يكون خروج وقتها دليلا على وجوبها بأوله .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه يحنث بغروب شمسه لبقاء زمان البر قبل الغروب ، فلم يتعلق به حكم الفوات كأوله ، فأما إن كان المحلوف عليه دابة إن ركبها في غده أو ثوبا يلبسه فيه لم يحنث بركوب الدابة ولبس الثوب في يومه ، لإمكان ذلك في غده ، فإن ركب وليس في غده فيما بين طلوع فجره وغروب شمسه بر في يمينه ، وإن لم يفعل حنث بغروب الشمس وجها واحدا ؛ لأن إمكان الفعل يمنع من القطع بالحنث .

                                                                                                                                            وأما القسم الثالث : وهو أن يؤخر فعل ذلك عن وقته ، فإن أخره عامدا حنث ، وإن أخره ناسيا ففي حنثه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : يحنث .

                                                                                                                                            والثاني : لا يحنث ، ولا يلزمه فعله بعد فوات وقته ، فلو أكل بعض الطعام في يومه وباقيه في غده حنث ؛ لأن إكمال الأكل في غده شرط في بره .

                                                                                                                                            وأما القسم الرابع : وهو أن يفوته فعل ذلك في وقته ، فهذا على أربعة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : أن يفوت ذلك بموت الحالف قبل الغد ، فلا حنث عليه لزوال تكليفه بالموت .

                                                                                                                                            الضرب الثاني : أن يفوته ذلك باستهلاكه له قبل غده باختياره ، فيحنث في غده قولا واحدا ؛ لأنه قد كان قادرا على فعله في الغد .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : أن يتلف قبل غده بفعل غيره ، ففي حنثه قولان لزوال قدرته وعدم مكنته .

                                                                                                                                            والضرب الرابع : أن يفوته فعله مع بقاء ذلك ووجوده إما بحبس أو إكراه أو مرض ، فيكون حنثه على قولين كالمكره ، فأما إن قدر على فعله في غده فلم يفعله مع القدرة حتى تلف في بقية غده ، فقد اختلف أصحابنا ، هل يجري على فواته فيه حكم المختار أو حكم المكره على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يجري عليه حكم المختار لإمكان فعله في وقته ، فعلى هذا يحنث قولا واحدا .

                                                                                                                                            [ ص: 370 ] والوجه الثاني : يجري عليه حكم المكره لبقاء وقته ، فعلى هذا يكون في حنثه قولان ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية