الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : ولا بأس أن يناضل أهل النشاب أهل العربية وأهل الحسبان : لأن لها نصل ، وكذلك القسي الدودانية والهندية وكل قوس يرمى عنها بسهم ذي نصل .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أنواع القسي تختلف باختلاف أنواع الناس ، فللعرب قسي وسهام ، وللعجم قسي وسهام ، وقيل : إن أول من صنع القسي العربية إبراهيم الخليل - صلوات الله عليه - وأول من صنع القسي الفارسية النمروذ بن كنعان ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب القوس العربية ، ويأمر بها ، ويكره القوس الفارسية ، وينهى عنها ، ورأى رجلا يحمل قوسا فارسية فقال : ملعون حاملها ، عليكم بالقسي العربية وسهامها ، فإنه سيفتح عليكم بها وليس هذا منه محمولا على الحظر المانع ، وفي تأويله ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : ليحفظ به آثار العرب ، ولا يعدل الناس عنها رغبة في غيره ، فعلى هذا يكون الندب إلى تفضيل القوس العربية باقيا .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه أمر بها لتكون شعار المسلمين حتى لا يتشبهوا بأهل الحرب من المشركين ، فيقتلوا ، فعلى هذا يكون الندب إلى تفضيلها مرتفعا : لأنها قد فشت في عامة المسلمين .

                                                                                                                                            والثالث : ما قاله عطاء أنه لعن من قاتل المسلمين بها ، فعلى هذا لا يكون ذلك ندبا إلى تفضيل العربية عليها ، ويكون نهيا عن قتال المسلمين بها وبغيرها ، وخصها باللعن ؛ لأنها كانت أنكأ في المسلمين من غيرها ، وقد رضي عنها الصحابة والتابعون في قتال المشركين ، وإن كان الاقتداء برسول الله لكن في قوسه لمن قوي رميه عنها أحب إلينا ، فإن كان بالفارسية أرمى كانت به أولى ، ويكون الندب منها إلى ما هو به [ ص: 224 ] أرمى ، فإذا تقررت هذه الجملة لم يخل حال المتناضلين في عقد نضالها من خمسة أحوال :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يشترطا فيه الرمي عن القوس العربية ، فعليهما أن يتناضلا بالعربية ، وليس لواحد منهما أن يعدل عنها إلى الفارسية : لأجل الشرط ، فإن تراضيا معا على العدول عن العربية إلى الفارسية جاز : لأن موجب الشرط أن يلتزمه كل واحد منهما في حق صاحبه دون غيره .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يشترطا فيه الرمي عن القوس الفارسية ، فعليهما أن يتناضلا بالفارسية ، وليس لواحد منهما أن يعدل عنها إلى العربية ، فإن تراضيا معا بالعدول إليها جاز .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن يشترطا أن يرمي أحدهما عن القوس العربية ، ويرمي الآخر عن القوس الفارسية ، فهذا جائز ، وإن اختلفت قوساهما : لأن مقصود الرمي حذق الرامي ، والآلة تبع ، ومثله في السبق إذا شرط أحدهما أن يتسابق على فرس ، والآخر على بغل لا يجوز ، وإن سوى أبو إسحاق المروزي بينهما في الجواز : لأن المقصود في السبق المركوبان والراكبان تبع ، فلزم التساوي فيه ، ولم يلزم التساوي في آلة الرمي ، فعلى هذا ليس لواحد منهما أن يعدل عن الشرط في قوسه وإن ساوى فيهما صاحبه لأجل شرطه ، فإن راضاه عليها جاز .

                                                                                                                                            والحال الرابعة : أن يشترطا أن يرمي كل واحد منهما عما شاء من قوس عربية أو فارسية ، فيجوز لكل واحد منهما أن يرمي عن أي القوسين شاء قبل الشروع في الرمي وبعده ، فإن أراد أحدهما منع صاحبه من خياره ، لم يجز ، سواء تماثلا فيها أو اختلفا .

                                                                                                                                            والحال الخامسة : أن يطلقا العقد من غير شرط ، فإن كان للرماة عرف في أحد القوسين حمل عليه ، وجرى في العرف في العقد المطلق مجرى الشرط في العقد المقيد ، وإن لم يكن للرماة فيه عرف معهود فهما بالخيار فيما اتفقا عليه من أحد القوسين إذا كانا فيها متساويين : لأن مطلق العقد يوجب التكافؤ وإن اختلفا لم يقرع بينهما : لأنه أصل في العقد ، وقيل لهما : إن اتفقتما وإلا فسخ العقد بينكما .

                                                                                                                                            فأما القوس " الدودانية " فهي القوس التي لها مجرى يمر السهم فيه ، ومنها قوس الرجل ، وإن كان أغلبها قوس اليد ، فيجوز أن يناضل بعضهم بعضا إذا اتفقوا ، ولا يجوز أن يتناضل الرجلان أحدهما قائم ، والآخر جالس إلا عن تراض ، فيلزم تساويهما في القيام والجلوس ، فإن اختلفا اعتبر فيه الأغلب من عرف الرماة ، ولا يجوز أن يناضل أهل النشاب أصحاب الجلاهق : لاختلاف الصفة فيها ، وأنه ليس الحذف بأحدهما حذفا بالآخر .

                                                                                                                                            [ ص: 225 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية