الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا أحل له أكل الميتة بالشروط المعتبرة ، كان له أن يأكل منها ما يمسك رمقه ، كيفما ساغه طبخا وقليا ، وشيا ، ونيئا ، وهل يجوز أن يتجاوز بالأكل بعد إمساك الرمق إلى أبد ينتهي إلى حد الشبع ، فيه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : ليس له الزيادة على إمساك الرمق ، وما بعده إلى حد الشبع حرام ، وبه قال أبو حنيفة ، واختاره المزني .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أنه يأكل حتى ينتهي إلى الشبع ، ولا يحرم عليه إلا ما زاد على حد الشبع ، وبه قال مالك ، وسفيان الثوري .

                                                                                                                                            ودليل القول الأول في تحريم الشبع قول الله تعالى : [ ص: 169 ] وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه [ الأنعام : 119 ] والضرورة تزول بإمساك الرمق ، فدلت على تحريم ما زاد عليه : ولأنه لو كان متماسك الرمق قبل أكلها حرمت عليه كذلك . إذا صار بها متماسك الرمق وجب أن تحرم عليه : لأنه غير مضطر إليها في الحالين : ولأن ارتفاع الضرورة موجب لارتفاع حكمها ، كما أن حدوث الضرورة موجب لحدوث حكمها .

                                                                                                                                            ولو جاز أن ترتفع الضرورة ، ولا يرتفع حكمها لجاز أن تحدث ، ولا يحدث حكمها .

                                                                                                                                            دليل القول الثاني : أن الشبع منها حلال لقول الله تعالى : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه [ البقرة : 173 ] فعم الإباحة برفع المأثم ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن الميتة ، فقال : ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تحتفئوا بقلا فشأنكم بها فعم إباحتها : ولأن ما حل أكله ، حل الاكتفاء منه ، كالطعام طردا والحرام عكسا : ولأنه مضطر إلى الشبع لحفظ قوته : لأن إمساك الرمق لا لبث له ، وتتعقبه الضرورة بعده إلى إمساكه بغيره ، وقد لا يجد الميتة بعدها ، فكان الشبع أمسك لرمقه ، وأحفظ لحياته ، ولئن كان إمساك الرمق في الابتداء معتبرا فقد لا يكون في الانتهاء معتبرا بعدم الطول في نكاح الأمة ، شرط في ابتداء العقد ، وليس بشرط بعد العقد ، فإذا تقرر توجيه القولين ، فإن قلنا بالأول منهما أنه لا يأكل منها إلا ما أمسك الرمق ، فأكل هذا القدر منها مباح له وواجب عليه ، لإحياء نفسه به : لقول الله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم [ النساء : 29 ] فإن ترك أكل ما يمسك الرمق حتى مات أثم ، وإن أكل ما زاد على إمساك الرمق كان آثما ، وما أكله من الزيادة حرام .

                                                                                                                                            وإن قلنا بالقول الثاني أنه يأكل منها حتى يشبع كان أكل ما أمسك الرمق واجبا عليه ، وكان أكل ما زاد عليه إلى الشبع مباحا له : لأن الوجوب مختص بما أحيا النفس ، وهو إمساك الرمق والزيادة عليه للحاجة وحفظ القوة ، وذلك ليس بواجب ، وأكل ما زاد على حد الشبع حرام : لأنه لا تدعو إليه ضرورة ولا حاجة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية