الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " لو قال في يمينه لأفعلن كذا لوقت إلا أن يشاء فلان ، فإن شاء فلان لم يحنث ، وإن مات أو غيب عنا حتى مضى الوقت حنث ( قال المزني ) قال بخلافه في باب جامع الأيمان " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : قال المزني : وصورة هذه المسألة أن يقول الحالف : والله لأدخلن هذه الدار اليوم إلا أن يشاء زيد ، فعين وقت دخوله في يومه ، فلا يبر بالدخول في غيره ، وجعل مشيئة زيد استثناء ليمينه ، فتعلق بمشيئة زيد أمران :

                                                                                                                                            أحدهما : صفة مشيئته المشروطة .

                                                                                                                                            والثاني : حكمها في الشرط ، فأما صفة مشيئته فهو أن يشاء أن لا يدخل الحالف الدار ؛ لأن الاستثناء ضد المستثنى منه : لأن من حكم الاستثناء إذا عاد إلى إثبات أن يكون نفيا ، وإذا عاد إلى نفي أن يكون إثباتا ، فإن قال الحالف : أردت إلا أن يشاء زيد دخولي ، فلما التزم الدخول حملت المشيئة على إرادته ، لاحتمالها ، وإن خالفت حكم الاستثناء ، وأما حكم مشيئة زيد فهو مع اليمين بعد انعقادها ، فتكون مشيئة زيد رافعة لعقد يمين الحالف : لأنه جعلها استثناء ، ولم يجعلها شرطا ، والاستثناء ينفي الإثبات [ ص: 285 ] ويثبت النفي واليمين ثابتة ، فكان استثناؤها نفيا ، فلو قال : أردت أن تكون مشيئة زيد شرطا في إثبات اليمين لم يعمل على إرادته ؛ لأنها تحيل حقيقة لفظه بما لا يحتمله : لأن قوله : إلا أن يشاء زيد ضد قوله : إن شاء زيد ، فلا يجوز أن يعلق على اللفظ حكم هذه ، وخالف صفة المشيئة إذا أراد خلاف إطلاقها لاحتماله ، فإذا تقررت صورة المسألة ، وحكم الاستثناء فيها بمشيئة زيد الرافع لعقد اليمين - فلا يخلو حال الحالف من أن يوجد فيه البر أو لا يوجد ، فإن كان البر منه موجودا بدخول الدار في يومه فلا حنث عليه سواء وجدت مشيئة زيد أو لم توجد ، لكن يكون دخوله بعد مشيئة زيد دخولا بعد ارتفاع اليمين ، فلا يتعلق به بر ولا حنث ، ودخوله مع عدم المشيئة دخولا يوجب البر في يمينه ، وإن لم يدخل الحالف الدار في يومه فقد عدم الفعل الذي يتعلق به البر ، فتراعى حينئذ مشيئة زيد ، هل ارتفعت اليمين بمشيئته ، أو كانت على انعقادها لعدم مشيئته ، ولا يخلو حال زيد فيها من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يعلم أنه قد شاء ، فاليمين قد ارتفعت بمشيئته ، فلم يحنث الحالف بترك الدخول ، لارتفاع اليمين .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يعلم أن زيدا لم يشأ فاليمين منعقدة لعدم الشرط في رفعها ، والدخول شرط في البر فيكون الحالف حانثا ، بترك الدخول لإخلاله بشرط البر .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن تخفى مشيئة زيد ، فلم يعلم هل شاء أو لم يشأ ، فقد نص الشافعي في هذه المسألة على أن الحالف يحنث بشرط الدخول ، فجعل الشك في المشيئة موجبا لسقوطها ، وحل اليمين على انعقادها فأوقع الحنث فيها ، ونقل الربيع في كتاب الأم عن الشافعي في مسألة أخرى ضد هذا الجواب مع وجوب اشتراكهما فيه ، وهو إذا قال حالف : والله لا دخلت هذه الدار في يومي هذا إلا أن يشاء زيد فدخلها في يومه ، ولم يعلم مشيئة زيد لم يحنث ، وهما في حكم المشيئة سواء ، وإن اختلفا في الصورة ؛ لأن اليمين في المسألة الأولى معقودة على دخول الدار ، وفي المسألة الثانية معقودة على ترك دخولها ، ومشيئة زيد في المسألتين جميعا رافعة لعقد اليمين ، وقد جعل الشك في مشيئة زيد رافعا لليمين في المسألة الثانية ، ولم يجعل الشك فيها رافعا لليمين في المسألة الأولى . ولولا أن الربيع علل جواب المسألة الثانية أنه لا يحنث لجواز أن يكون زيد قد شاء فلا يحنث بالشك ، فجاز أن ينسب الربيع إلى الوهم ، أو ينسب الكاتب إلى الغلط ، فاختلف أصحابنا في اختلاف هذين الجوابين مع اتفاقهم على استواء البر والحنث في المسألتين . على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن خرجوا جواب كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وحملوهما على قولين :

                                                                                                                                            [ ص: 286 ] أحدهما : يحنث بالشك في مشيئة زيد إثباتا لعقد اليمين في المسألتين : لأن الشك في صحة الاستثناء يوجب سقوط حكمه .

                                                                                                                                            والقول الثاني : لا يحنث بالشك في مشيئة زيد إثباتا لصحة الاستثناء في المسألتين ؛ لأن الشك في كفارة الحنث توجب سقوطها استصحابا لبراءة الذمة ، فهذا أحد وجهي أصحابنا .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وقد حكاه أبو إسحاق المروزي ، وأبو علي بن أبي هريرة ليس اختلاف الجوابين على اختلاف قولين ، وإنما هو على اختلاف حالين ، فحنثه الشافعي في المسألة الأولى إذا فات أن يستدرك مشيئة زيد بموته ولم يحنث في المسألة الثانية إذا أمكن استدراكها بغيبته حيا ، والتوصل إلى العلم بها ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية