الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولو كانت عليه كفارة ثلاثة أيمان مختلفة فأعتق وأطعم وكسا ينوي الكفارة ، ولا ينوي عن أيها العتق ولا الإطعام ولا الكسوة أجزأه ، وأيها شاء أن يكون عتقا أو طعاما أو كسوة كان ، وإن لم يشأ ، فالنية الأولى تجزئه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهو كما قال ، إذا كانت عليه ثلاث كفارات عن ثلاث أيمان مختلفة كان في التكفير عنها بالخيار بين أن يكفر عنها من جنس واحد ، فيطعم عن جميعها ويكسو عن جميعها ، أو يعتق عن جميعها ، وبين أن يكفر عنها من أجناس مختلفة فيطعم عن أحدها ، ويكسو عن أحدها ويعتق عن أحدها ؛ لأن لكل كفارة حكم [ ص: 307 ] نفسها ، وسواء عينها أو أطلقها : لأن عليه النية في الكفارة ، وليس عليه أن يعين عن أي كفارة كالوضوء يلزمه أن ينوي أنه عن الحدث ، ولا يلزمه عن أي حدث .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : يلزمه تعيين النية عن أي كفارة ، كما يلزمه تعيين النية للصلاة من ظهر أو عصر ، فيقال له : لما لم يلزمه في قضاء الصلوات الفوائت أن يعين عن أي يوم لم يلزمه في الكفارات أن يعين عن أي حنث ، فلا يكون في إثباته التعيين في الأداء بأولى من نفيه للتعيين في القضاء ، فاستويا ثم ترجح ما ذكرنا باتفاقنا على أنه لو نسي صلاة لم يعرفها بعينها لم يجزه في قضائها أن ينوي قضاء ما وجب عليه ، لعدم التعيين ، ولو كانت عليه كفارة لا يعرف موجبها أجزأه أن ينوي بالتكفير ما وجب عليه ، فعلم أن تعيين النية في الصلاة واجب ، وتعيينها في الكفارة غير واجب .

                                                                                                                                            فأما الفرق بين الطهارة والصلاة في تعيين النية في الصلاة دون الطهارة مع اشتراكهما في وجوب النية فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : ما حكاه أبو القاسم الأنماطي عن المزني قال : قلت للمزني : لم افتقرت الصلاة إلى تعيين النية ، ولم تفتقر الطهارة إلى تعيين النية ، فقال : لأن الصلاة تراد لنفسها ، والطهارة تراد لغيرها ، وهذا صحيح . وهكذا الكفارة تراد لغيرها ، وهو تكفير الحنث ، فلذلك لم يلزم فيها تعيين النية .

                                                                                                                                            والفرق الثاني : قاله أبو علي بن أبي هريرة ، أن الطهارة بسبب متقدم ، وهو ما سبق من الحدث ، فلم يلزم تعيين النية له ، والصلاة لأمر مستقبل ، فجاز أن يلزم تعيين النية فيها ، وهذا صحيح ، وهكذا الكفارة بسبب متقدم ، وهو ما سبق من اليمين ، فلم يعتبر تعيين النية فيها .

                                                                                                                                            فإن قيل : النية في الكفارة أغلظ منها في الطهارة : لأنه لو نوى بطهارته أنها عن نوم ، فكانت عن بول أجزأه ، ولو نوى بعتقه في الكفارة أنه عن ظهار فكان عن قتل لم يجزه ، فجاز أن تتغلظ الكفارة بتعيين النية ، وإن لم تتغلظ بها الطهارة .

                                                                                                                                            قيل : إنما أجزأته الطهارة ولم تجزه الكفارة ، بمعنى آخر ، وهو أن الطهارة ترفع جميع الأحداث لأنها تتداخل ، فكذلك أجزأت في مخالفة التعيين ، والعتق لا يسقط جميع الكفارات ؛ لأنها لا تتداخل ، فلذلك لم تجز في مخالفة التعيين .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية