الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت وجوبها في الثمار فهي واجبة في ثمر النخل أو الكرم دون ما عداهما من الثمار ، إذا بلغ كل واحد منهما خمسة أوسق تمرا أو زبيبا ، ولا شيء فيما دون ذلك . هذا مذهب الشافعي وبه قال من الصحابة جابر وابن عمر . ومن الفقهاء مالك ، والليث بن سعد ، والأوزاعي وأبو يوسف ، ومحمد ، وأحمد بن حنبل .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : العشر واجب في قليله وكثيره من غير اعتبار نصاب استدلالا بقوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده [ الأنعام : 141 ] فكان على عمومه في قليله وكثيره وبعموم قوله ، صلى الله عليه وسلم : فيما سقت السماء العشر

                                                                                                                                            وروايته عن أبان بن أبي عياش عن رجل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما سقت السماء ففيه العشر ، وما سقي بنضح أو غرب فنصف العشر في قليله وكثيره ، ولأنه حق في مال ليس من شرط وجوبه الحول ، فلم يكن من شرط وجوبه النصاب ، كخمس الغنائم والركاز ، ولأن للزكاة شرطين الحول والنصاب ، فلما لم يكن الحول في الثمار معتبرا ، لم يكن النصاب فيها معتبرا .

                                                                                                                                            وتحريره قياسا : أنه أحد شرطي الزكاة فوجب أن لا يعتبر في الثمار كالحول ولأنه لو كان في ابتدائه وقص يعفى عنه : لكان في انتهائه وقص يعفى عنه كالماشية ، فلما لم يكن في أثنائه عفو اقتضى أن لا يكون في ابتدائه عفو .

                                                                                                                                            ودليلنا : رواية أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة فتعلق الخبر بنفي الصدقة فيما دون خمسة أوسق وهو موضع الخلاف ، ودليله بينها في خمسة أوسق فما زاد ، وهو موضع وفاق ، وروى أبو سعيد وجابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا زكاة في زرع ولا نخل ولا كرم حتى يبلغ خمسة أوسق

                                                                                                                                            وروى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا زكاة في شيء من الحرث حتى يبلغ خمسة أوسق فإذا بلغ خمسة أوسق ففيه الزكاة والوسق ستون صاعا وهذه نصوص لا [ ص: 211 ] احتمال فيها ، فإن قيل : ما دون الخمسة لا تجب فيه الزكاة ، وإنما يجب فيه العشر ألا ترى أنا نأخذه من المكاتب والذمي ، وإن لم تؤخذ منهما الزكاة ، قيل : هذا فاسد من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الشرع قد ورد بتسمية العشر زكاة ، وهو قوله في حديث جابر : لا زكاة في شيء من الحرث . . . إلى قوله : فإذا بلغ خمسة أوسق ففيه الزكاة .

                                                                                                                                            والثاني : أنه نفى عما دون الخمسة ما أثبته في الخمسة ، فلم يصح تأويلهم : ولأنه جنس مال تجب فيه الزكاة فوجب أن يعتبر فيه النصاب كالفضة والذهب ، ولأنه حق مال يجب صرفه في الأصناف الثمانية فوجب أن يعتبر فيه النصاب كالمواشي ، ولأن كل حق تعلق بمال مخصوص اعتبر فيه قدر مخصوص كالذهب والفضة وعكسه حقوق الآدميين ، ولأن النصاب إنما اعتبر في المواشي ليبلغ المال حدا يتسع للمواساة وهذا موجود في الثمار ، فأما احتجاجهم فعام وما ذكرناه أخص ، وأما الخبر وهو قوله فيما سقت السماء العشر فعنه جوابان : ترجيح واستعمال ، فأما الترجيح فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن قوله فيما سقت السماء العشر بيان في الإخراج مجمل في المقدار ، وقوله : ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة بيان في المقدار مجمل في الإخراج ، فكان بيان المقدار من خبرنا قاضيا على إجمال المقدار من خبرهم ، كما أن بيان الإخراج من خبرهم قاض على إجمال الإخراج من خبرنا .

                                                                                                                                            والثاني : أن خبرهم متفق على تخصيص بعضه : لأن أبا حنيفة لا يوجب في الحشيش والقصب والحطب ولا في أرض الخراج شيئا ، وخبرنا خبر متفق على تخصيص بعضه ، فكان أولى من خبرهم .

                                                                                                                                            وأما الاستعمال ففي الخمسة الأوسق : لأنه أعم وخبرنا أخص فيستعملان معا وأما قياسهم على خمس الغنيمة والركاز ، فالمعنى في الغنيمة : أنه لما لم يعتبر النصاب في شيء من جنسها بحال لم يكن معتبرا فيها بكل حال ، ولما كان النصاب معتبرا في بعض أجناس الزكاة كان معتبرا في جميع أجناسها .

                                                                                                                                            وأما الركاز فالمعنى فيه : أنه مأخوذ بغير عوض ولا تعب ، فلم يعتبر فيه النصاب ، وليس كذلك الثمار التي يلحق فيها تعب ويلزم فيها عوض ، وأما قياسهم على الحول فمنتقض على أصلهم بزكاة الفطر ، يعتبرون فيها النصاب ولا يعتبرون الحول على أن المعنى في الحول أنه قصد به تكامل النماء ، والثمار يتكامل نماؤها قبل الحول ، فسقط اعتبار الحول [ ص: 212 ] في الثمار أو إن كان معتبرا في غيرها ، والنصاب إنما اعتبر ليبلغ المال قدرا يتسع للمواساة ، وهذا المعنى موجود في الثمار ، كوجوده في غيرها .

                                                                                                                                            وأما قولهم لو كان في ابتدائها عفو لكان في انتهائها عفو فمنتقض على أصلنا بالذهب والفضة ، على أن المعنى في المواشي حيث دخل العفو في أثناء نصابها : لأن إيجاب الكثير في جميع الزيادة مشقة تلحق أرباب الأموال وأهل السهمان وليس كذلك في الزروع والثمار .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية