الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " والحامل والمرضع إذا خافتا على ولدهما أفطرتا وعليهما القضاء وتصدقت كل واحدة منهما عن كل يوم على مسكين بمد من حنطة ، ( قال المزني ) كيف يكفر من أبيح له الأكل والأفطار ولا يكفر من لم يبح له الأكل فأكل وأفطر ؟ وفي القياس أن الحامل كالمريض وكالمسافر ، وكل يباح له الفطر فهو في القياس سواء ، واحتج بالخبر " من استقاء عامدا فعليه القضاء ولا كفارة " ( قال المزني ) ولم يجعل عليه أحد من العلماء علمته فيه كفارة وقد أفطر عامدا وكذا قالوا في الحصاة يبتلعها الصائم .

                                                                                                                                            قال الماوردي : لا يخلو حال الحامل والمرضع في إفطارهما من أحد أمرين : إما أن يفطرا لخوف وحاجة أم لا ؟ فإن أفطرتا بغير خوف عليهما ولا على ولدهما ولا حاجة دعتهما إلى الإفطار ماسة فحكمهما حكم المفطر عامدا في الإثم والمعصية ، ووجوب القضاء فأما الكفارة فعلى اختلافهم فيها ، وإن أفطرتا لخوف فذلك ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون الخوف عليهما في أنفسهما وأبدانهما ، فلا شبهة في جواز فطرهما ووجوب القضاء عليهما ، ولا كفارة كالمريض .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون الخوف على الولد والحمل دون أنفسهما فلا خلاف أن الفطر مباح لهما ، فإذا أفطرتا فمذهب الشافعي في القديم والجديد ، وما نقله المزني والربيع [ ص: 437 ] أن عليهما القضاء والكفارة في كل يوم مد من حنطة ، وبه قال مجاهد وأحمد ، وقال الشافعي : في كتاب " البويطي " تجب الكفارة على المرضع دون الحامل ، وبه قال مالك ، وقال أبو حنيفة والثوري وأبو عبيد وأبو ثور والمزني : لا كفارة على واحدة منهما ، وإنما يستحب ذلك لهما ، ومن أصحابنا من خرجه قولا ثالثا للشافعي ، ومنهم من أنكره ، وحكي عن عمر وابن عباس أنهما أوجبا الكفارة وأسقطا القضاء ، واستدل أبو حنيفة ومن تابعه برواية أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة ، ووضع الصوم عن المريض والمسافر والحامل والمرضع " . فاقتضى ظاهر هذا الخبر ، أن أحكام الصوم موضوعة من كفارة وقضاء إلا ما قام دليله من وجوب القضاء ، قالوا : ولأنه إفطار بعذر فوجب أن لا تلزم به الكفارة كالمسافر والمريض ، قالوا : ولأن الأعذار في الفطر ضربان :

                                                                                                                                            ضرب يوجب القضاء ، ويسقط الكفارة كالسفر والمرض .

                                                                                                                                            وضرب يوجب الكفارة ويسقط القضاء كالشيخ الهرم ، فأما اجتماعهما بعذر فخلاف الأصول ، ومما استدل بهالمزني أنه قال : إذا كان الأكل عامدا لا كفارة عليه مع كونه آثما عاصيا ، فالحامل والمرضع اللذان لم يعصيا بالفطر ، ولم يأثما به أولى أن لا تجب عليهما الكفارة ، وهذا خطأ والدلالة على وجوب الكفارة عليه قوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين [ البقرة : 184 ] والحامل والمرضع ممن يطيق الصيام فوجب بظاهر هذه الآية أن تلزمهما الفدية ، فإن قيل : فهذه الآية منسوخة بقوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ البقرة : 185 ] فحتم الصوم على المطيقين ، وأسقط عنهم الفدية قيل : إنما نسخ منها التخيير ، فيما عدا الحامل والمرضع على حكم الأصل لاتفاقهم على جواز الفطر لهما مع الطاقة والقدرة ، فبقيت الحامل والمرضع على حكم الأصل ، ولأنها مقيمة صحيحة باشرت الفطر بعذر معتاد فوجب أن تلزمها الكفارة كالشيخ الهرم ، ولأن الصوم عبادة يجتمع فيها القضاء والكفارة العظمى فجاز أن يجتمع فيها القضاء والكفارة الصغرى كالحج ، ولأن الفطر فطران : فطر بعذر وفطر بغير عذر ، ثم كان الفطر بغير عذر يتنوع نوعين ، نوع يثبت به القضاء حسب وهو الأكل ، ونوع يثبت به القضاء والكفارة وهو الجماع فكذلك يقتضي أن يتنوع الفطر بعذر نوعين ، نوع يجب به القضاء حسب ، ونوع يجب به القضاء والكفارة ، وإن شئت حررت هذا فقلت : لأنه أحد نوعي الفطر فجاز أن يكون منه ما يجب به القضاء والكفارة كالإفطار بغير عذر ، فأما الخبر فلا حجة فيه ؛ لأن سقوط انحتام الصوم ، لا يؤذن بسقوط الكفارة ، ألا ترى الشيخ الهرم قد سقط عنه انحتام الصوم ، ولزمته الكفارة وقياسهم على [ ص: 438 ] المسافر والمريض ، فالمعنى فيه : أنه فطر يختص بنفسه ارتفق به شخص واحد ، وهذا فطر ارتفق به شخصان فشابه الجماع ، وأما قولهم : إن في اجتماعهما مخالفة للأصول فغير صحيح ؛ لأنه إنما يكون مخالفا للأصول إذا وافق معنى الأصول وخالفها في الحكم ، فأما إذا خالفها في المعنى فيجب أن يخالفها في الحكم ، كما أن المعنى في المسح على الخفين لما كان مخالفا لمعنى المسح على العمامة والقفازين أوجب اختلاف الحكم فيهما ، والمعنى في الحامل والمرضع أنه فطر ارتفق به شخصان فشابه الجماع ، وخالف المسافر والمريض ، وأما ما ذكره المزني ، فيقال له : ليست الكفارات معتبرة بكثرة الآثام والمعصية ، وإنما هي حكمة استأثر الله تعالى بعلمها ألا ترى أن الردة في شهر رمضان أعظم من الوطء ، ثم لا كفارة فيها على أن معناهما يتفرق بما ذكرنا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية