الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ويغسل الرجل امرأته والمرأة زوجها ، غسلت أسماء بنت عميس زوجها أبا بكر الصديق رضي الله عنه ، وعلي امرأته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت عائشة : لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه ( قال ) وليس للعدة معنى ، يحل لأحدهما فيها ما لا يحل له من صاحبه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح : أما الزوجة فلها أن تغسل زوجها إذا مات ، لا يعلم في ذلك خلاف ، لما روي عن سعيد بن المسيب قال : أوصى أبو بكر رضي الله عنه أن يغسله زوجته أسماء بنت عميس ، وقال : " إن كنت صائمة فأفطري ، ويعينك عبد الرحمن بن أبي [ ص: 16 ] بكر " ، قالت عائشة رضي الله عنها : فغسلته وهي صائمة ثم ذكرت عزمة أبي بكر فدعت بماء فشربته وقالت : كدت أتبعه معصية .

                                                                                                                                            وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه " فأما إذا ماتت الزوجة فقد اختلف الناس هل لزوجها أن يغسلها أم لا ؟ .

                                                                                                                                            فذهب الشافعي ومالك إلى جواز ذلك .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة والثوري : لا يجوز له غسلها استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا ينظر الله إلى امرئ ينظر إلى فرج امرأة وبنتها " . ، قالوا : فلما جاز له العقد على بنت امرأته إذا ماتت قبل الدخول واستباح بالعقد النظر إلى فرجها دل على أن الأمر قد حرم عليه النظر إليها ؛ لأن لا يكون ناظرا إلى فرج امرأة وبنتها ، قالوا : ولأن كل من جاز له العقد على أخت زوجته لم يجز له النظر إلى زوجته ، كالمطلقة قبل الدخول ، قالوا : ولأنه لما حل له أن ينكح غيرها لم يحل له أن يغسلها ، ولما لم يحل لها أن تنكح غيره حل لها أن تغسله لارتفاع العصمة بموتها وبقاء العصمة بموته .

                                                                                                                                            والدليل على صحة ما ذهب إليه الشافعي : ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " وارأساه " فقلت : لا بل وارأساه فقال : " ما عليك لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك " . فلما أخبرها أنها لو ماتت قبله لغسلها ، وقد أخبره الله تعالى أنه سيموت : دل على أنه قصد بذلك بيان حكم غيره من الأزواج مع غيرها من الزوجات ، وروت أسماء بنت عميس أن فاطمة عليها السلام أوصت أن يغسلها علي رضي الله عنه ، قالت أسماء : فغسلها علي عليه السلام وأنا معه ثم لم يكن من الصحابة منكرا فعله ، فدل أنه إجماع .

                                                                                                                                            فإن قيل : إنما جاز له أن يغسلها لبقاء النكاح بينهما لقول النبي صلى الله عليه وسلم " كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي " . قلنا : قد بين معنى ذلك ، وأنه في الآخرة يوم القيامة ، [ ص: 17 ] والنكاح في الدنيا مرتفع بالموت ، ألا ترى أنه عليه السلام تزوج أمامة بنت أبي العاصي بعد فاطمة وهي بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتزوج عثمان رضي الله عنه بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة بعد أخرى ، فلو كان سبب النكاح باقيا ؛ لحرم على علي عليه السلام تزويج أمامة ، وعلى عثمان تزويج أم كلثوم بعد رقية ، ولأنها زوجية زالت بالوفاة فوجب أن لا يتعلق بها تحريم النظر قياسا على موت الزوج ، ولأنه معنى يزيل التكليف فوجب أن لا يحرم كالجنون ، ولأن أصول النكاح مبنية على أن كل شيء أوجب تحريم نظر أحدهما لم يوجب تحريم نظر الآخر كالإيلاء والظهار ، فلما كان الموت لا يوجب تحريم نظر الزوج اقتضى أن لا يوجب تحريم نظر الزوجة .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : " لا ينظر الله إلى امرئ ينظر إلى فرج امرأة وبنتها " فقد قال أهل العلم : المراد به أن يجمع بينهما في النكاح ، على أنه قد يمنع من النظر إلى فرجها ، وأما قياسهم على الطلاق فالمعنى فيه أنه لما لم يجز لها النظر إليه لم يجز له النظر إليها ، ولما جاز لها النظر في الموت إليه جاز له النظر إليها .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم : إنه لما كان له أن ينكح غيرها لم يحل له أن يغسلها : فدعوى لا برهان عليها ، وليس تفردها بالعدة موجبا لتفردها لعصمة الزوجية ؛ لأن العدة لا مدخل لها في إباحة النظر وحظره ، ألا ترى أنه لو طلقها ومات في عدتها لم يحل لها النظر إليه وإن كانت في عدة منه ، ولو مات منها وهي حامل فوضعت قبل غسله جاز لها النظر إليه وإن لم تكن في عدة منه ، فعلم أن ثبوت العدة كعدمها في إباحة النظر وحظره .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية