لما ولي سعيد خراسان استضعفه الناس وسموه خذينة ، وكان قد استعمل شعبة [ ص: 140 ] على سمرقند ثم عزله ، فطمعت الترك ، فجمعهم خاقان ووجههم إلى الصغد ، وعلى الترك كور صول ، فأقبلوا حتى نزلوا بقصر الباهلي .
وقيل : أراد عظيم من عظماء الدهاقين أن يتزوج امرأة من باهلة كانت في ذلك القصر ، فأبت ، فاستجاش ، ورجوا أن يسبوا من في القصر ، فأقبل كور صول حتى حصر أهل القصر ، وفيه مائة أهل بيت بذراريهم ، وكان على سمرقند عثمان بن عبد الله بن مطرف بن الشخير ، قد استعمله سعيد بعد شعبة ، فكتبوا إليه ، وخافوا أن يبطئ عنهم المدد فصالحوا الترك على أربعين ألفا ، وأعطوهم سبعة عشر رجلا رهينة .
وندب عثمان الناس ، فانتدب المسيب بن بشر الرياحي ، وانتدب معه أربعة آلاف من جميع القبائل ، وفيهم شعبة بن ظهير ، وثابت قطنة ، وغيرهما من الفرسان ، فلما عسكروا ، قال لهم المسيب : إنكم تقدمون على حلبة الترك عليهم خاقان ، والعوض إن صبرتم الجنة ، والعقاب إن فررتم النار ، فمن أراد الغزو والصبر فليقدم ، فرجع عنه ألف وثلاثمائة ، فلما سار فرسخا رجع بمثل مقالته الأولى ، فاعتزله ألف ، ( ثم سار فرسخا آخر فقال لهم مثل ذلك ، فاعتزله ألف ، ثم سار ) فلما كان على فرسخين منهم نزل ، فأتاهم ترك خاقان ملك ( قي ) فقال : لم يبق هاهنا دهقان إلا وقد بايع الترك غيري ، وأنا في ثلاثمائة مقاتل ، فهم معك ، وعندي الخبر قد كانوا صالحوهم ، وأعطوهم سبعة عشر رجلا يكونون رهينة في أيديهم ، حتى يأخذوا صلحهم ، فلما بلغهم مسيركم إليهم قتلوا الرهائن ، وميعادهم أن يقاتلوا غدا ويفتحوا لهم القصر .
فبعث المسيب رجلين ، رجلا من العرب ، ورجلا من العجم ، ليعلما علم القوم ، فأقبلا في ليلة مظلمة وقد أخذت الترك الماء في نواحي القصر ، فليس يصل إليه أحد ، ودنوا من القصر ، فصاح بهما الربيئة ، فقالا له : اسكت وادع لنا عبد الملك بن دثار . فدعاه ، فأعلماه بقرب المسيب منهم ، وقالا : هل عندكم امتناع الليلة وغدا ؟ قالوا : قد أجمعنا على تقديم نسائنا للموت أمامنا ، حتى نموت جميعا غدا . فرجعا إلى المسيب فأخبراه ، فقال لمن معه : إني سائر إلى هذا العدو ، فمن أحب أن يذهب فليذهب ، فلم يفارقه أحد وبايعوه على الموت .
فأصبح وسار وقد ازداد القصر تحصينا بالماء الذي أجراه الترك ، فلما صار بينه وبين الترك نصف فرسخ نزل وقد أجمع على بياتهم ، فلما أمسى أمر أصحابه بالصبر وحثهم عليه وقال : ليكن شعاركم يا محمد ، ولا تتبعوا موليا ، وعليكم بالدواب فاعقروها ، فإنها [ ص: 141 ] إذا عقرت كانت أشد عليهم منكم ، وليست بكم قلة ، فإن سبعمائة سيف لا يضرب بها في عسكر إلا أوهنوه وإن كثر أهله . وجعل على ميمنته كثيرا الدبوسي ، وعلى ميسرته ثابت قطنة ، وهو من الأزد ، فلما دنوا منهم ، كبروا ، وذلك في السحر ، وثار الترك وخالطهم المسلمون فعقروا الدواب ، وترجل المسيب في رجال معه ، فقاتلوا قتالا شديدا ، وانقطعت يمين البختري المرائي ، فأخذ السيف بشماله فقطعت ، فجعل يذب بيديه حتى استشهد . وضرب ثابت قطنة عظيما من عظماء الترك ، فقتله ، وانهزمت الترك ، ونادى منادي المسيب : لا تتبعوهم فإنهم لا يدرون من الرعب أتبعتموهم أم لا ، واقصدوا القصر ، ولا تحملوا إلا الماء ، ولا تحملوا إلا من يقدر على المشي ، ومن حمل امرأة أو صبيا أو ضعيفا; حسبة ، فأجره على الله ، ومن أبى فله أربعون درهما ، وإن كان في القصر أحد من أهل عهدكم فاحملوه . فحملوا من في القصر وأتوا ترك خاقان ، فأنزلهم قصره وأتاهم بطعام ، ثم ساروا إلى سمرقند . ورجعت الترك من الغد ، فلم يروا في القصر أحدا ، ورأوا قتلاهم فقالوا : لم يكن الذي جاءنا من الإنس ، فقال ثابت قطنة :
فدت نفسي فوارس من تميم غداة الروع في ضنك المقام فدت نفسي فوارس أكنفوني
على الأعداء في رهج القتام بقصر الباهلي وقد رأوني
أحامي حيث ضن به المحامي بسيفي بعد حطم الرمح قدما
أذودهم بذي شطب حسام أكر عليهم اليحموم كرا
ككر الشرب آنية المدام أكر به لدى الغمرات حتى
تجلت لا يضيق به مقامي فلولا الله ليس له شريك
وضربي قونس الملك الهمام إذا لسعت نساء بني دثار
أمام الترك بادية الخدام فمن مثل المسيب في تميم
أبي بشر كقادمة الحمام
قال بعض من كان بالقصر : لما التقوا ظننا أن القيامة قد قامت لما سمعنا من هماهم القوم ، ووقع الحديد ، وصهيل الخيل .