الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر تعاقد أهل خراسان على أبي مسلم

وفي هذه السنة تعاقدت عامة قبائل العرب بخراسان على قتال أبي مسلم ، وفيها تحول أبو مسلم من معسكره بسفيذنج إلى الماخوان .

وكان سبب ذلك أن أبا مسلم لما ظهر أمره سارع إليه الناس ، وجعل أهل مرو يأتونه ولا يعرض لهم نصر ولا يمنعهم ، وكان الكرماني وشيبان لا يكرهان أمر أبي مسلم لأنه دعا إلى خلع مروان ، وأبو مسلم في خباء ليس له حرس ولا حجاب ، وعظم أمره عند الناس وقالوا : ظهر رجل من بني هاشم له حلم ووقار وسكينة . فانطلق فتية من أهل مرو نساك يطلبون الفقه إلى أبي مسلم فسألوه عن نسبه ، فقال : خيري خير لكم من نسبي ، وسألوه أشياء من الفقه فقال : أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر خير لكم من هذا ، ونحن إلى عونكم أحوج منا إلى مسألتكم فاعفونا . فقالوا : ما نعرف لك نسبا ولا نظنك تبقى إلا قليلا حتى تقتل ، وما بينك وبين ذلك إلا أن يتفرغ أحد هذين الأميرين . [ ص: 367 ] فقال أبو مسلم : أنا أقتلهما إن شاء الله . فأتوا نصرا فأخبروه ، فقال : جزاكم الله خيرا ، مثلكم من يفتقد هذا ويعرفه . وأتوا شيبان فأعلموه فأرسل إليه نصر : إنا قد أشجى بعضنا بعضا ، فاكفف عني حتى أقاتله ، وإن شئت فجامعني إلى حربه حتى أقتله أو أنفيه ثم نعود إلى أمرنا الذي نحن عليه . فهم شيبان أن يفعل ذلك ، فأتى الخبر أبا مسلم ، فكتب إلى علي بن الكرماني : إنك موتور قتل أبوك ، ونحن نعلم أنك لست على رأي شيبان ، وإنما تقاتل لثأرك . فامتنع شيبان من صلح نصر . فدخل على شيبان فثناه عن رأيه ، فأرسل نصر إلى شيبان : إنك لمغرور ، والله ليتفاقمن هذا الأمر حتى يستصغرني في جنبه كل كبير ، وقال شعرا يخاطب به ربيعة واليمن ويحثهم على الاتفاق معه على حرب أبي مسلم :

أبلغ ربيعة في مرو وفي يمن أن اغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب     ما بالكم تنشبون الحرب بينكم
كأن أهل الحجى عن رأيكم غيب     وتتركون عدوا قد أحاط بكم
ممن تأشب لا دين ولا حسب     لا عرب مثلكم في الناس نعرفهم
ولا صريح موال إن هم نسبوا     من كان يسألني عن أصل دينهم
فإن دينهم أن تهلك العرب     قوم يقولون قولا ما سمعت به
عن النبي ولا جاءت به الكتب



[ ص: 368 ] فبينا هم كذلك إذ بعث أبو مسلم النضر بن نعيم الضبي إلى هراة وعليها عيسى بن عقيل بن معقل الليثي ، فطرده عنها ، فقدم على نصر منهزما وغلب النضر على هراة .

فقال يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني لابن الكرماني وشيبان : اختاروا إما أنكم تهلكون أنتم قبل مضر ، أو مضر قبلكم . قالوا : وكيف ذلك ؟ قال : إن هذا الرجل إنما ظهر أمره منذ شهر ، وقد صار في عسكره مثل عسكركم . قالوا : فما الرأي ؟ قال : صالحوا نصرا ، فإنكم إن صالحتموه قاتلوا نصرا وتركوكم لأن الأمر في مضر ، وإن لم تصالحوا نصرا صالحوه وقاتلوكم ، فقدموا مضر قبلكم ولو ساعة من نهار فتقر أعينكم بقتلهم .

فأرسل شيبان إلى نصر يدعوه إلى الموادعة ، فأجابه وأرسل سالم بن أحوز بكتاب الموادعة ، فأتى شيبان وعنده ابن الكرماني ويحيى بن نعيم ، فقال سالم لابن الكرماني : يا أعور ! ما أخلقك أن تكون الأعور الذي يكون هلاك مضر على يده ! ثم توادعوا سنة وكتبوا كتابا .

فبلغ ذلك أبا مسلم فكتب إلى شيبان : إنا نوادعك أشهرا فوادعنا ثلاثة أشهر . فقال ابن الكرماني : إني ما صالحت نصرا إنما صالحه شيبان ، وأنا لذلك كاره ، وأنا موتور بقتله أبي ولا أدع قتاله . فعاود القتال ، ولم يعنه شيبان وقال : لا يحل الغدر .

فأرسل ابن الكرماني إلى أبي مسلم يستنصره ، فأقبل حتى نزل الماخوان ، وكان مقامه بسفيذنج اثنين وأربعين يوما ، ولما نزل الماخوان حفر بها خندقا وجعل للخندق بابين فعسكر به ، واستعمل على الشرط أبا نصر مالك بن الهيثم ، وعلى الحرس أبا إسحاق خالد بن عثمان ، وعلى ديوان الجند كامل بن مظفر أبا صالح ، وعلى الرسائل أسلم بن صبيح ، وعلى القضاء القاسم بن مجاشع النقيب ، وكان القاسم يصلي بأبي مسلم فيقص القصص بعد العصر ، فيذكر فضل بني هاشم ومعايب بني أمية .

ولما نزل أبو مسلم الماخوان أرسل إلى ابن الكرماني : إني معك على نصر . فقال ابن الكرماني : إني أحب أن يلقاني أبو مسلم . فأتاه أبو مسلم فأقام عنده يومين ثم رجع إلى الماخوان ، وذلك لخمس خلون من المحرم سنة ثلاثين ومائة .

وكان أول عامل استعمله أبو مسلم على شيء من العمل داود بن كرار ، فرد أبو مسلم العبيد عنه واحتفر لهم خندقا في قرية شوال ، وولى الخندق داود بن كرار ، [ ص: 369 ] فلما اجتمعت للعبيد جماعة وجههم إلى موسى بن كعب بأبيورد .

وأمر أبو مسلم كامل بن مظفر أن يعرض الجند ويكتب أسماءهم وأسماء آبائهم ونسبتهم إلى القرى ، ويجعل ذلك في دفتر ، فبلغت عدتهم سبعة آلاف رجل .

ثم إن القبائل من مضر وربيعة واليمن توادعوا على وضع الحرب ، وأن تجتمع كلمتهم على [ محاربة ] أبي مسلم . وبلغ أبا مسلم الخبر فعظم عليه وناظر ، فإذا الماخوان سافلة الماء ، فتخوف أن يقطع نصر عنه الماء فتحول إلى ألين ، وكان مقامه بالماخوان أربعة أشهر ، فنزل ألين وخندق بها .

وعسكر نصر بن سيار على نهر عياض ، وجعل عاصم بن عمرو ببلاشجرد ، وأبا الذيال بطوسان ، فأنزل أبو الذيال جنده على أهلها ، وكان عامة أهلها مع أبي مسلم في الخندق ، فآذوا أهل طوسان وعسفوهم ، وسير إليهم أبو مسلم جندا ، فلقوا أبا الذيال فهزموه وأسروا من أصحابه نحوا من ثلاثين رجلا ، فكساهم أبو مسلم وداوى جراحهم وأطلقهم .

ولما استقر بأبي مسلم معسكره بالين أمر محرز بن إبراهيم أن يسير في جماعة ويخندق بجيرنج ، ويجتمع عنده جمع من الشيعة ليقطع مادة نصر من مرو الروذ وبلخ وطخارستان ، ففعل ذلك ، واجتمع عنده نحو من ألف رجل ، فقطع المادة عن نصر .

التالي السابق


الخدمات العلمية