الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ملك كسرى شيرويه بن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان

لما ملك شيرويه بن أبرويز وأمه مريم ابنة موريق ملك الروم واسمه قباذ ، دخل عليه العظماء والأشراف فقالوا : لا يستقيم أن يكون لنا ملكان ، فإما أن تقتل كسرى ونحن عبيدك ، وإما أن نخلعك ونطيعه .

فانكسر شيرويه ونقل أباه من دار الملك إلى موضع آخر حبسه فيه ، ثم جمع العظماء وقال : قد رأينا الإرسال إلى كسرى بما كان من إساءته ونوقفه على أشياء منها . فأرسل إليه رجلا يقال له أستاذ خشنش كان يلي تدبير المملكة ، وقال له : قل لأبينا الملك عن رسالتنا : إن سوء أعمالك فعل بك ما ترى ، منها جرأتك على أبيك ، وسملك عينيه وقتلك إياه ، ومنها سوء صنيعك إلينا معشر أبنائك في منعنا من مجالسة الناس وكل ما لنا فيه دعة ، ومنها إساءتك إلى من خلدت في السجون ، ومنها إساءتك إلى النساء تأخذهن لنفسك وتركك العطف عليهن ، ومنعهن ممن يعاشرهن ويرزقن منه الولد ، ومنها ما أتيت إلى رعيتك عامة من العنف والغلظة والفظاظة ، ومنها جمع الأموال في شدة وعنف من أربابها ، ومنها تجميرك الجنود في ثغور الروم وغيرها ، وتفريقك بينهم وبين أهليهم ، ومنها غدرك بموريق ملك الروم مع إحسانه إليك وحسن بلائه عندك وتزويجه [ ص: 448 ] إياك بابنته ، ومنعك إياه خشبة الصليب التي لم يكن بك ولا بأهل بلادك إليها حاجة ، فإن كان لك حجة تذكرها فافعل ، وإن لم يكن لك حجة فتب إلى الله تعالى حتى يأمر فيك بأمره .

قال : فجاء الرسول إلى كسرى أبرويز فأدى إليه الرسالة ، فقال أبرويز : قل عني لشيرويه القصير العمر ، لا ينبغي لأحد أن يتوب من أجل الصغير من الذنب ، إلا بعد أن يتيقنه فضلا عن عظيمه ما ذكرت وكثرت منا ، ولو كنا كما تقول لم يكن لك أيها الجاهل أن تنشر عنا مثل هذا العظيم الذي يوجب علينا القتل ، لما يلزمك في ذلك من العيوب ، فإن قضاة أهل ملتك ينفون ولد المستوجب للقتل من أبيه ، وينفونه من مضامة أهل الأخيار ومجالستهم فضلا عن أن يملك ، مع أنه قد بلغ منا بحمد الله من إصلاحنا أنفسنا وأبناءنا ورعيتنا ما ليس في شيء منه تقصير ، ونحن نشرح الحال فيما لزمنا من الذنوب لتزداد علما بجهلك . فمن جوابنا : أن الأشرار أغروا كسرى هرمز والدنا بنا حتى اتهمنا ، فرأينا من سوء رأيه فينا ما يخوفنا منه ، فاعتزلنا بابه إلى أذربيجان ، وقد استفاض ذلك ، فلما انتهك منه ما انتهك شخصنا إلى بابه ، فهجم المنافق بهرام علينا فأجلانا عن المملكة ، فسرنا إلى الروم وعدنا إلى ملكنا واستحكم أمرنا ، فبدأنا بأخذ الثأر ممن قتل أبانا أو شرك في دمه .

وأما ما ذكرت من أمر أبنائنا ، فإننا وكلنا بكم من يكفكم عن الانتشار فيما لا يعنيكم فتتأذى بكم الرعية والبلاد ، وكنا أقمنا لكم النفقات الواسعة وجميع ما تحتاجون إليه ، وأما أنت خاصة فإن المنجمين قضوا في مولدك أنك مثرب علينا ، وأن يكون ذلك بسببك ، وإن ملك الهند كتب إليك كتابا وأهدى لك هدية ، فقرأنا الكتاب فإذا هو يبشرك بالملك بعد ثمان وثلاثين سنة من ملكنا ، وقد ختمنا على الكتاب وعلى مولدك وهما عند شيرين ، فإن أحببت أن تقرأهما فافعل ، فلم يمنعنا ذلك عن برك والإحسان إليك فضلا عن قتلك .

وأما ما ذكرت عمن خلدناه في السجون ، فجوابنا : إننا لم نحبس إلا من وجب عليه القتل أو قطع بعض الأطراف ، وقد كان الموكلون بهم والوزراء يأمروننا بقتل من وجب قتله قبل أن يحتالوا لأنفسهم ، فكنا بحبنا الاستبقاء وكراهتنا لسفك الدماء نتأنى [ ص: 449 ] بهم ونكل أمرهم إلى الله تعالى ، فإن أخرجتهم من محبسهم عصيت ربك ، ولتجدن غب ذلك .

أما قولك : إنا جمعنا الأموال ، وأنواع الجواهر والأمتعة بأعنف جمع وأشد إلحاح ، فاعلم أيها الجاهل أنه إنما يقيم الملك بعد الله تعالى الأموال والجنود ، وخاصة ملك فارس الذي قد اكتنفه الأعداء ، ولا يقدر على كفهم وردعهم عما يريدونه إلا بالجنود والأسلحة والعدد ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالمال ، وقد كان أسلافنا جمعوا الأموال والسلاح وغير ذلك فأغار المنافق بهرام ومن معه على ذلك إلا اليسير ، فلما ارتجعنا ملكنا وأذعن لنا الرعية بالطاعة ، أرسلنا إلى نواحي بلادنا أصبهبذين وقامرسانين ، فكفوا الأعداء وأغاروا على بلادهم ، ووصل إلينا غنائم بلادهم من أصناف الأموال والأمتعة ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وقد بلغنا أنك هممت بتفريق هذه الأموال على رأي الأشرار المستوجبين للقتل ، ونحن نعلمك أن هذه الأموال لم تجتمع إلا بعد الكد والتعب والمخاطرة بالنفوس ، فلا تفعل ذلك فإنها كهف ملكك وبلادك وقوة على عدوك .

فلما انصرف أستاذ خشنش إلى شيرويه قص عليه جواب أبيه ، ثم إن عظماء الفرس عادوا إلى شيرويه فقالوا : إما أن تأمر بقتل أبيك وإما أن نطيعه ونخلعك ، فأمر بقتله على كره منه وانتدب لقتله رجالا ممن وترهم كسرى أبرويز ، وكان الذي باشر قتله شاب يقال له مهرهرمز بن مردانشاه من ناحية نيمروذ .

فلما قتل شق شيرويه ثيابه وبكى ولطم وجهه ، وحملت جنازته وتبعها العظماء وأشراف الناس ، فلما دفن أمر شيرويه بقتل مهرهرمز قاتل أبيه . وكان ملكه ثمانيا وثلاثين سنة .

ثم إن شيرويه قتل إخوته ، فهلك منهم سبعة عشر أخا ذوو شجاعة وأدب ، بمشورة وزيره فيروز .

وابتلي شيرويه بالأمراض ، ولم يلتذ بشيء من الدنيا ، وكان هلاكه بدسكرة الملك ، وجزع بعد قتل إخوته جزعا شديدا .

ويقال : إنه لما كان اليوم الثاني من قتل إخوته دخلت عليه بوران وآزرميدخت أختاه [ ص: 450 ] فأغلظتا له وقالتا : حملك الحرص على الملك الذي لا يتم لك على قتل أبيك وإخوتك . فلما سمع ذلك بكى بكاء شديدا ورمى التاج عن رأسه ولم يزل مهموما مدنفا . ويقال : إنه أباد من قدر عليه من أهل بيته . وفشا الطاعون في أيامه فهلك من الفرس أكثرهم ، ثم هلك هو . وكان ملكه ثمانية أشهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية