ذكر الرصافة للمهدي بناء
وفي هذه السنة قدم المهدي من خراسان في شوال ، فقدم عليه أهل بيته من الشام والكوفة والبصرة وغيرها ، فهنأوه بمقدمه ، فأجازهم وحملهم وكساهم ، وفعل بهم المنصور مثل ذلك ، وبنى له الرصافة .
وكان سبب بنائها أن بعض الجند شغبوا على المنصور وحاربوه على باب الذهب ، [ ص: 172 ] فدخل عليه قثم بن العباس بن عبيد الله بن عباس ، وهو شيخهم ، وله الحرمة والتقدم عندهم ، فقال له المنصور : أما ترى ما نحن فيه من التياث الجند علينا ؟ وقد خفت أن تجمع كلمتهم فيخرج هذا الأمر من أيدينا ، فما ترى ؟
قال : يا أمير المؤمنين ، عندي رأي إن أظهرته لك فسد ، وإن تركتني أمضيه صلحت [ لك ] خلافتك وهابك جندك . قال له : أفتمضي في خلافتي شيئا لا أعلمه ؟ فقال له : إن كنت عندك متهما فلا تشاورني ، وإن كنت مأمونا عليها فدعني أفعل رأيي . قال له المنصور : فأمضه .
فانصرف قثم إلى منزله ، فدعا غلاما له فقال [ له ] : إذا كان غدا فتقدمني واجلس في دار أمير المؤمنين ، فإذا رأيتني قد دخلت وتوسطت أصحاب المراتب فخذ بعنان بغلتي فاستحلفني بحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ( وبحق العباس ) ، وبحق أمير المؤمنين إلا ما وقفت لك ، وسمعت مسألتك ، وأجبتك عنها ، فإني سأنتهرك وأغلظ لك [ القول ] فلا تخف وعاود المسألة ، فإني سأضربك فعاود وقل لي : أي الحيين أشرف ، اليمن أم مضر ؟ فإذا أجبتك فاترك البغلة وأنت حر .
ففعل الغلام ما أمره ، وفعل قثم به ما قاله ، ثم قال : مضر أشرف لأن منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيها كتاب الله ، وفيها بيت الله ، ومنها خليفة الله .
فامتعضت لذلك اليمن إذ لم يذكر لهم شيئا [ من شرفهم ] ، وقال بعض قوادهم : ليس الأمر كذلك مطلقا بغير فضيلة لليمن ، ثم قال لغلام له : قم إلى بغلة الشيخ فاكبحها . ففعل حتى كاد يقعيها ، فامتعضت مضر وقالوا : أيفعل هذا بشيخنا ! فأمر بعضهم غلامه فضرب يد ذلك الغلام فقطعها ، فنفر الحيان .
ودخل قثم على المنصور فافترق الجند ، فصارت مضر فرقة ، وربيعة فرقة ، والخراسانية فرقة . فقال قثم للمنصور : قد فرقت بين جندك وجعلتهم أحزابا كل حزب منهم يخاف أن يحدث [ عليك ] حدثا فتضربه بالحزب الآخر .
وقد بقي عليك في التدبير بقية ، وهي أن تعبر بابنك فتنزله في ذلك الجانب ، وتحول معه قطعة من جيشك فيصير ذلك بلدا وهذا بلدا ، فإن فسد عليك أولئك ضربتهم بهؤلاء ، وإن فسد عليك هؤلاء ضربتهم بأولئك ، وإن فسد عليك بعض القبائل ضربتهم بالقبيلة الأخرى . فقبل رأيه [ ص: 173 ] واستقام ملكه وبنى الرصافة ، وتولى صالح صاحب المصلى ذلك .