الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5663 ص: وأما وجهه من طريق النظر فإنا رأينا الأصل المجتمع عليه أن شروطا صحاحا قد تعقد في الشيء المبيع مثل الخيار إلى أجل معلوم للبائع أو للمبتاع فيكون البيع على ذلك جائزا، وكذلك الأثمان قد تعقد فيها آجال يشترطها المبتاع فتكون

                                                [ ص: 46 ] لازمة إذا كانت معلومة، ويكون البيع مضمنا بها، ورأينا ذلك الأجل لو كان فاسدا أفسد بفساده البيع، ولم يثبت البيع، وينتفي هو إذا كان معقودا فيه، فلما جعل البيع مضمنا بهذه الشرائط المشروطة في ثمنه من صحتها وفسادها فجعله جائزا بجوازها وفاسدا بفسادها، ثم كان البيع إذا وقع على المبيع وكان عبدا على أن يخدم البائع شهرا، فقد ملك البائع المشتري العبد على أن ملكه المشتري ألف درهم وخدمة العبد شهرا، والمشتري حينئذ فغير مالك للخدمة ولا للعبد؛ لأن ملكه إنما يكون بعد تمام البيع، فصار البيع واقعا بمال وبخدمة عبد لا يملكه المشتري في وقت ابتياعه بالمال وبخدمته.

                                                وقد رأيناه لو ابتاع عبدا بخدمة أمة لا يملكها كان البيع فاسدا، فالنظر على ذلك أن يكون البيع أيضا كذلك إذا عقد بخدمة من لم يكن تقدم ملكه له قبل ذلك العقد؛ لأن رسول الله -عليه السلام- قد نهى عن بيع ما ليس عندك، ولما كانت الأثمان مضمنة بالآجال الصحيحة والفاسدة على ما قد ذكرنا؛ كان كذلك الأشياء المثمونة أيضا المضمنة بالشرائط الفاسدة والصحيحة.

                                                فثبت بذلك أن البيع لو وقع واشترط فيه شرط مجهول أن البيع يفسد بفساد ذلك الشرط على ما قد ذكرنا؛ فقد انتفى قول من قال: يجوز البيع ويبطل الشرط، وقول من قال: يجوز البيع ويثبت الشرط، ولم يكن في هذا الباب قول غير هذين القولين وغير القول الآخر: أن البيع يبطل إذا اشترط فيه ما ليس منه.

                                                فلما انتفى القولان الأولان ثبت القول الآخر، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رحمهم الله -.

                                                التالي السابق


                                                ش: وجه هذا النظر والقياس ظاهر.

                                                ملخصه: أن الشروط التي هي من مقتضيات العقد لا تفسد العقد إذا كانت معلومة كالخيار لأحد المتعاقدين والتأجيل في الثمن، وتفسد العقد إذا كانت مجهولة، فالنظر على ذلك أن تفسد العقد بشروط ليست من مقتضيات العقد سواء كانت معلومة أو مجهولة.

                                                [ ص: 47 ] فإن قيل: إذا كانت مجهولة فمسلم، وإذا كانت معلومة فلم تبطل؟

                                                قلت: لأن فيه معنى آخر وهو أنه يؤدي إلى بيع ما ليس عندك وهو باطل.

                                                بيان ذلك: أنه إذا اشترى عبدا وشرط فيه البائع أن يخدمه العبد شهرا فالعقد يكون بمال وبخدمة عبد لا يملكه المشتري وقت العقد، فيكون نظيره كمن اشترى عبدا بخدمة أمة لا يملكها، فلما كان هذا فاسدا فكذلك هناك؛ لأنه عقد بخدمة عما ليس عندك.

                                                فإن قيل: روى ابن وهب في "مسنده": حدثني سليمان بن بلال، ثنا كثير بن زيد ، عن الوليد بن رباح ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "المسلمون عند شروطهم".

                                                وأخرج ابن حزم : من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي، ثنا الحزامي ، عن محمد بن عمر ، عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن عمر بن عبد العزيز قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "المسلمون عند شروطهم".

                                                وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن عبد الملك ، عن عطاء، بلغنا أن النبي -عليه السلام- قال: "المسلمون على شروطهم".

                                                حدثنا ابن أبي زائدة ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن خالد بن محمد ، عن شيخ من بني كنانة، سمعت عمر -رضي الله عنه- يقول: "المسلم عند شرطه".

                                                ثنا حفص بن غياث ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه، عن علي قال: "المسلمون عند شروطهم".

                                                فهذا كله يدل على أن الشرط لا يضر صحة البيع.

                                                [ ص: 48 ] قلت: المراد من هذه الشروط هي التي أباحها الله تعالى، لا التي نهاهم عنها، وقد قال -عليه السلام-: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط"، على أن ابن حزم قد قال: كثير بن زيد هو كثير بن عبد الله بن عمرو بن زيد هالك متروك باتفاق، والوليد بن رباح مجهول، وعبد الملك هالك، ومحمد بن عمر هو الواقدي مذكور بالكذب، وعبد الرحمن بن محمد مجهول لا يعرف، وهو مرسل أيضا، والحجاج بن أرطاة هالك، وخالد بن محمد مجهول، وكذلك شيخ من بني كنانة.

                                                وخبر علي -رضي الله عنه- مرسل.

                                                قوله: "فقد انتفى قول من قال: يجوز البيع ويبطل الشرط" وهو قول إحدى الفرقتين من أهل المقالة الثانية.

                                                قوله: "وقول من قال: يجوز البيع ويثبت الشرط" وهو قول أهل المقالة الأولى الذي ذكر في أول الباب.

                                                قوله: "ولم يكن في هذا الباب قول غير هذين القولين" أشار به إلى قول إحدى الفرقتين من أهل المقالة الثانية وقول أهل المقالة الأولى، وأراد بقوله: "وغير القول الآخر" هو قول الفرقة الثانية من أهل المقالة الثانية، وهو قول أصحابنا ومن معهم، والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية