الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5725 5726 ص: وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم ، قال: ثنا محمد بن يوسف الفريابي ، قال: ثنا سفيان ، عن موسى بن عبيدة ، عن القعقاع بن حكيم ، عن سلمى أم رافع ، عن أبي رافع قال: " جاء جبريل -عليه السلام- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستأذن عليه فأذن له، فأبطأ، فأخذ رداءه فخرج، فقال: قد أذنا لك، فقال: أجل يا رسول الله، ولكنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو، فأمر أبا رافع أن لا يدع كلبا بالمدينة إلا قتله، فإذا بامرأة من ناحية المدينة لها كلب يحرس عنها. قال: فرحمتها، فأتيت النبي -عليه السلام-، فأمرني فقتلته، فأتاه ناس من الناس فقالوا: يا رسول الله، ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرتنا بقتلها؟ قال: فنزلت: يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين ".

                                                حدثنا روح بن الفرج ، قال: ثنا سليمان الجعفي، قال: ثنا يحيى بن زكرياء، قال: ثنا موسى بن عبيدة ، قال: حدثني أبان بن صالح ، عن القعقاع بن حكيم ، عن سلمى أم بني رافع ، عن أبي رافع قال: " لما أمر رسول الله -عليه السلام- بقتل الكلاب، أتاه ناس فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت: يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين .

                                                ففي هذا الحديث أيضا مثل ما قبله مما أباحه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أمر بقتلها وإن كان لم يذكر في هذا الحديث غير ما يضاد به منها، وفيه زيادة على ما قبله من الأحاديث في الإباحة التي ذكرنا؛ لأن فيه نزول هذه الآية بعد تحريم الكلاب، وأن

                                                [ ص: 100 ] هذه الآية أعادت الجوارح المكلبين إلى أن صيرتها حلالا، وإذا صارت كذلك كانت في حكم سائر الأشياء التي هي حلال في حل إمساكها، وإباحة أثمانها، وضمان متلفيها ما أتلفوا منها كغيرها.

                                                التالي السابق


                                                ش: ذكر حديث أبي رافع تأييدا لما ذكره فيما مضى من انتساخ حكم الأمر بقتل الكلاب وحكم النهي عن اتخاذها، وبيانا أن حديث أبي رافع مثل الأحاديث المذكورة في إباحة اتخاذ الكلاب بعد الأمر بقتلها، مع زيادة فيه على تلك الأحاديث وهي أنه يتضمن نزول قوله تعالى: قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح بعد تحريم الكلاب، فتكون هذه الآية أيضا ناسخة لما تقدم من الأحاديث التي فيها الأمر بقتل الكلاب والنهي عن اتخاذها فبينت هذه الآية أن اتخاذ هذه الجوارح حلال، فإذا كانت حلالا صار حكمها كحكم سائر الأشياء التي هي حلال، في حل إمساكها، وجواز بيعها، وإباحة أثمانها، وفي وجوب الضمان على متلفيها كما في غيرها من الأشياء.

                                                وفي هذا الفصل خلاف.

                                                فعند أبي حنيفة وأصحابه: إذا قتل كلب رجل الذي يصيد به أو يقتنيه لزرعه أو لماشيته أو نحو ذلك؛ تجب عليه قيمته.

                                                وقال أبو عمر - رحمه الله -: لا خلاف عن مالك أن من قتل كلب صيد أو ماشية أو زرع فعليه القيمة، ومن قتل غيرها من الكلاب فليس عليه شيء.

                                                وروي عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه جعل في كلب الصيد القيمة. وعن عطاء مثله.

                                                وعن ابن عمر أنه أوجب فيه أربعين درهما وأوجب في كلب ماشية فرقا من طعام.

                                                وعن عثمان -رضي الله عنه- أنه أجاز الكلب الضاري، وجعل على قاتله عشرا من الإبل.

                                                [ ص: 101 ] وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: لا خلاف عن مالك أن من قتل كلب صيد أو ماشية أو زرع فعليه قيمته، ولا قيمة على من قتل كلب الدار.

                                                وقال الشافعي: لا قيمة عليه بحال.

                                                وفي "المغني" لابن قدامة: ومن قتله وهو معلم فقد أساء ولا غرم عليه، وبهذا قال الشافعي، وأوجب مالك وعطاء عليه الغرم.

                                                وقال ابن حزم في "المحلى": ولا يحل قتل الكلاب فمن قتلها ضمنها بمثلها أو بما يتراضيا عليه عوضا منها إلا الأسود البهيم أو الأسود ذا النقطتين أينما كانت النقطتان منه، فإن عظمتا حتى لا تسمى في اللغة العربية نقطتين لكن تسمى لمعتين لم يجز قتله.

                                                ثم إنه أخرج حديث أبي رافع من طريقين:

                                                الأول: عن عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم المصري ، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري ، عن سفيان الثوري ، عن موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي - ضعفه يحيى وأحمد، وعن يحيى: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة.

                                                وهو يروي عن القعقاع بن حكيم الكناني المدني - عن سلمى أم رافع - وهي خادم النبي -عليه السلام-، وهي مولاة صفية بنت عبد المطلب وهي امرأة أبي رافع، ويقال أيضا مولاة النبي -عليه السلام- وكانت قابلة ابني فاطمة بنت رسول الله -عليه السلام- وهي التي غسلت فاطمة مع زوجها علي -رضي الله عنهما- ومع أسماء بنت عميس -رضي الله عنها-، وشهدت خيبر مع رسول الله -عليه السلام-، وهي تروي عن أبي رافع مولى النبي -عليه السلام- واسمه إبراهيم، وقد مرت ترجمته غير مرة.

                                                [ ص: 102 ] والحديث أخرجه أبو يعلى في "مسنده": ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا ابن نمير ، عن موسى بن عبيدة، أخبرني أبان بن صالح ، عن القعقاع بن حكيم ، عن سلمى أم رافع، عن أبي رافع قال: "جاء جبريل -عليه السلام- فاستأذن على رسول الله -عليه السلام- فأذن له، فأبطأ عليه، فأخذ رسول الله -عليه السلام- رداءه فقام إليه وهو قائم بالباب، فقال رسول الله -عليه السلام-: قد أذنا، فقال: أجل يا رسول الله، ولكنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب، فنظروا فوجدوا جروا في بعض بيوتهم. قال أبو رافع: فأمرني حين أصبحت فلم أدع بالمدينة كلبا إلا قتلته، فإذا أنا بامرأة قاصية ولها كلب ينبح عليها، فكأني رحمتها فتركته، فجئته فأخبرته، فأمرني أن أقتله، فرجعت إلى الكلب فقتلته، قال: فقال الناس: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله - عز وجل - يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين ".

                                                وأخرجه الطبراني في "الكبير" بإسناد الطحاوي مختصرا، وقال: نا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، ثنا محمد بن يوسف الفريابي، ثنا سفيان ، عن موسى بن عبيدة ، عن أبان بن صالح ، عن القعقاع بن حكيم ، عن سلمى، عن أبي رافع، قال: "جاء ناس إلى النبي -عليه السلام- فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ - يعني الكلاب - فأنزل الله - عز وجل - يسألونك ماذا أحل لهم الآية..".

                                                الطريق الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري ، عن سليمان [......] عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة ، عن موسى بن عبيدة الربذي ، عن أبان بن صالح بن عمير المدني ، عن القعقاع بن حكيم ، عن سلمى... إلى آخره.

                                                [ ص: 103 ] وأخرجه أبو يعلى أيضا في "مسنده": ثنا المقدمي، ثنا زيد بن الحباب، ثنا موسى بن عبيدة، حدثني أبان بن صالح ، عن القعقاع بن حكيم ، عن سلمى امرأة أبي رافع، عن أبي رافع: "أن جبريل -عليه السلام- أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستأذن فأذن له، فأبطأ عليه، فأخذ النبي -عليه السلام- رداءه ثم خرج إليه فقال: قد أذنا لك، قال: أجل، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة. قال أبو رافع: فأمرني النبي -عليه السلام- أن أقتل كل كلب بالمدينة، فخرجت فإذا امرأة عندها كلب فتركته رحمة لها، ثم جئت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، فأمرني أن أعود إلى الكلب فأقتله، ثم جاء الناس فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت النبي -عليه السلام- فنزلت: يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا أرسل الرجل كلبه وذكر اسم الله عليها يؤكل ما لم يأكل".

                                                ثم الكلام في معنى الآية الكريمة: فقوله: الطيبات يتناول المعنيين:

                                                أحدهما: الطيب المستلذ، والآخر: الحلال؛ وذلك لأن ضد الطيب هو الخبيث، والخبيث حرام، فإذا الطيب حلال، والأصل فيه الاستلذاذ، فشبه الحلال به في انتفاء المضرة فيهما جميعا.

                                                وقال تعالى: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا يعني الحلال. قال: ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فجعل الطيبات في مقابلة الخبائث، والخبائث هي المحرمات، وقال تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء وهو يحتمل ما حل لكم، ويحتمل ما استطبتموه.

                                                [ ص: 104 ] فقوله: قل أحل لكم الطيبات جائز أن يريد به ما استطبتموه واستلذذتموه ما لا ضرر عليكم في تناوله من طريق الدين، فرجع ذلك إلى معنى الحلال الذي لا تبعة على متناوله، وجائز أن يحتج بظاهره في إباحة جميع الأشياء المستلذة إلا ما خصه الدليل.

                                                ثم إنهم لما سألوا عما أحل من الكلاب التي أمروا بقتلها أنزل الله تعالى هذه الآية، وليس يمتنع أن تكون الآية منتظمة لإباحة الانتفاع بالكلاب وبصيدها، وحقيقة اللفظ يقتضي الكلاب أنفسها؛ لأن قوله: وما علمتم يوجب إباحة ما علمنا، وإضمار الصيد يحتاج إلى دلالة.

                                                وفي فحوى الآية دليل على إباحة صيدها وهو قوله: فكلوا مما أمسكن عليكم فحمل هذه الآية على المعنيين واستعمالها فيهما على الفائدتين أولى من الاقتصار على أحدهما.

                                                وقد دلت الآية أيضا على أن شرط إباحة الجوارح: أن تكون معلمة؛ لقوله تعالى: وما علمتم من الجوارح وقوله تعالى: تعلمونهن مما علمكم الله

                                                وأما الجوارح فإنه قد قيل: إنها الكواسب للصيد على أهلها من الكلاب وسباع الطير التي تصيد غيرها، واحدها: جارح ومنه سميت الجارحة؛ لأنه يكتسب بها، قال الله تعالى: ما جرحتم بالنهار يعني ما كسبتم، ومنه أم حسب الذين اجترحوا السيئات وذلك يدل على جواز الاصطياد بكل ما علم الاصطياد من سائر ذوي الناب من السباع وذي المخلب من الطير، وقيل: الجوارح ما يجرح بناب أو مخلب.

                                                [ ص: 105 ] قال محمد في الزيادات: إذا صدم الكلب الصيد ولم يجرحه فمات لم يؤكل؛ لأنه لم يجرح بناب أو مخلب، ألا ترى إلى قوله تعالى: وما علمتم من الجوارح مكلبين فإنما يحل صيد ما يجرح بناب أو مخلب فإذا كان الاسم يقع عليهما فليس يمتنع أن يكونا مرادين باللفظ؛ فيريد بالكواسب ما يكسب بالاصطياد فيقيد الأصناف التي يصاد بها من الكلاب والفهود وسباع الطير وجميع ما يقبل التعليم.

                                                قوله تعالى: مكلبين قد قيل فيه وجهان: أحدهما: أن المكلب هو صاحب الكلب الذي يعلمه الصيد ويؤدبه، وقيل: معناه مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب، والتكلب هو التضرية، يقال: كلب كلب إذا ضرى بالناس، وليس في قوله: مكلبين تخصيص الكلاب دون غيرها من الجوارح إذا كانت التضرية عامة فيهن، وكذلك إن أراد به تأديب الكلب وتعليمه كان ذلك عموما في سائر الجوارح.




                                                الخدمات العلمية