الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5200 ص: فإن قال قائل: إن الذي ذكرتموه من سلب أبي جهل، وما ذكرتموه في عبادة إنما كان ذلك في يوم بدر قبل أن تجعل الأسلاب للقاتلين، ثم جعل رسول الله -عليه السلام- يوم حنين الأسلاب للقاتلين، فقال: من قتل قتيلا فله سلبه، فنسخ ذلك ما تقدمه.

                                                [ ص: 267 ] قيل له: ما دل ما ذكرت على نسخ شيء مما تقدمه؛ لأن ذلك القول الذي كان من رسول الله -عليه السلام- يوم حنين قد يجوز أن يكون أراد به من قتل قتيلا في [تلك] الحرب لا غير ذلك؛ كما قال يوم فتح مكة شرفها الله تعالى: "من ألقى سلاحه فهو آمن" فلم يكن ذلك على كل من ألقى سلاحه في غير تلك الحرب، ولما ثبت أن الحكم كان قبل يوم حنين أن الأسلاب لا تجب للقاتلين، ثم حدث في يوم حنين هذا القول من رسول الله -عليه السلام-؛ فاحتمل أن يكون ناسخا لما تقدم، واحتمل أن لا يكون ناسخا له؛ لم نجعله ناسخا له حتى نعلم ذلك يقينا، ومما قد دل أيضا على أن ذلك القول ليس بناسخ لما كان قبله من الحكم:

                                                أن يونس حدثنا، قال: ثنا سفيان ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن أنس بن مالك، أن البراء بن مالك أخا أنس بن مالك ، بارز مرزبان الزارة فطعنه طعنة فكسر القربوس وخلص إليه فقتله فقوم سلبه ثلاثين ألفا، فلما صلينا الصبح غدا علينا عمر ، -رضي الله عنه- فقال لأبي طلحة: : إنا كنا لا نخمس الأسلاب وإن سلب البراء قد بلغ مالا، ولا أرانا إلا خامسيه. فقومنا ثلاثين ألفا فدفعنا إلى عمر -رضي الله عنه- ستة آلاف".

                                                فهذا عمر -رضي الله عنه- يقول: "إنا كنا لا نخمس الأسلاب" ثم خمس سلب البراء، . فدل ذلك أنهم كانوا لا يخمسون ولهم أن يخمسوا، وأن الأسلاب لا تجب للقاتلين دون أهل العسكر، وقد حضر عمر -رضي الله عنه- ما كان من قول رسول الله -عليه السلام- يوم حنين: "من قتل قتيلا فله سلبه" . فلم يكن ذلك عنده على كل من قتل قتيلا في [تلك] الحرب خاصة. وقد كان أبو طلحة -رضي الله عنه- حضر ذلك أيضا بحنين وقضى له رسول الله -عليه السلام- بأسلاب القتلى الذين قتلهم فلم يكن ذلك عنده موجبا لخلاف ما أراد عمر -رضي الله عنه- في سلب المرزبان، وقد كان أنس بن مالك -رضي الله عنه- حاضرا ذلك أيضا من رسول الله -عليه السلام- بحنين، ومن عمر -رضي الله عنه- في يوم البراء، ، فكان ذلك عنده على ما رأى عمر ، -رضي الله عنه- لا على خلاف ذلك.

                                                [ ص: 268 ] فهؤلاء أصحاب رسول الله -عليه السلام- لم يجعلوا قول رسول الله -عليه السلام- يوم حنين: "من قتل قتيلا فله سلبه" على النسخ للحكم المتقدم لذلك في يوم بدر.

                                                التالي السابق


                                                ش: تقرير السؤال أن يقال لأهل المقالة الثانية: إن استدلالكم - بحديث عبد الرحمن بن عوف الذي جعل فيه رسول الله -عليه السلام- سلب أبي جهل لأحد قاتليه دون الآخر، وبحديث عبادة بن الصامت الذي لم يفضل فيه رسول الله -عليه السلام- الطائفة الذين تولوا القتل على الآخرين - لا يتم ولا يصح ولا تقوم به دعواكم في أن السلب لا يجب للقاتل بقتله ولا يكون له إلا بقول الإمام: من قتل قتيلا فله سلبه تحريضا للناس على القتال لما يرى فيه من مصلحة المسلمين؛ وذلك لأن هذا كان يوم بدر قبل أن تجعل الأسلاب للقاتلين، ثم جعل رسول الله -عليه السلام- يوم حنين الأسلاب للقاتلين، فقال: "من قتل قتيلا فله سلبه" فنسخ هذا الحكم ما تقدمه من الحكم الذي كان يوم بدر، وكان بين بدر وحنين أعوام؛ لأن غزوة بدر كانت في سنة ثنتين من الهجرة، وغزوة حنين كانت في سنة ثمان من الهجرة، فثبت بذلك أن السلب للقاتل على كل حال سواء قال الإمام: "من قتل قتيلا فله سلبه" أو لم يقل.

                                                وقال ابن حزم : وكل من قتل قتيلا من المشركين فله سلبه، قال ذلك الإمام أو لم يقله، كيف ما قتله صبرا أو في القتال، ثم استدل على ذلك بحديث أبي قتادة: "أن رسول الله -عليه السلام- قال بعد انقضاء القتال يوم حنين: من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه".

                                                والجواب عن ذلك ظاهر، قد أمعن فيه الطحاوي - رحمه الله -، وأيده بحديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.

                                                أخرجه بإسناد صحيح رجاله كلهم رجال الصحيح: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن سفيان بن عيينة ، عن أيوب السختياني ، عن محمد بن سيرين ، عن أنس .

                                                [ ص: 269 ] وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان السلب لا يخمس، وكان أول سلب خمس في الإسلام سلب البراء بن مالك وكان قتل مرزبان الزارة وقطع منطقته وسواريه، فلما قدمنا المدينة صلى عمر -رضي الله عنه- الصبح، ثم أتانا وقال: السلام عليكم، أثم أبو طلحة؟ فقالوا: نعم، فخرج إليه، فقال عمر -رضي الله عنه-: إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء مال، وإني خامسه، فدعا المقومين فقوموا ثلاثين ألفا، فأخذ منها ستة آلاف".

                                                قوله: "بارز مرزبان الزارة" من المبارزة في الحرب، وهو أن يظهر بين الصفوف ويطلب المحاربة مع شجاع مثله من الطائفة المخالفين.

                                                و: "المرزبان" بفتح الميم وسكون الراء وضم الزاي وبالباء الموحدة وفي آخره نون، هو الفارس الشجاع المقدم على القوم دون الملك وهو معرب ويجمع على مرازبة، و: "الزارة" بالزاي وفتح الراء المخففة لقب للمرزبان المبارز كما يلقب بالأسد.

                                                قوله: "فكسر القربوس" بفتح القاف والراء مثل طرسوس، وقال الجوهري: لا يخفف إلا في الشعر؛ لأن فعلولا ليس من أبنيتهم.

                                                قوله: "إنا كنا لا نخمس الأسلاب" من خمس يخمس - بتخفيف الميم - من باب نصر ينصر، يقال: خمست القوم أخمسهم - بالضم - إذا أخذت منهم خمس أموالهم.

                                                قوله: "ولا أرانا" بضم الهمزة "إلا خامسيه" أصله إلا خامسين إياه فسقطت النون للإضافة.

                                                ومما دل هذا الحديث: على أن الأسلاب لا تجب للقاتلين ولا تختص بهم دون أهل العسكر.

                                                [ ص: 270 ] وقال أبو عمر: هذا يدل على أن أمر السلب إلى الأمير ولو كان للقاتل قضاء من النبي -عليه السلام- ما احتاج هؤلاء - يعني عمر بن الخطاب وأبا طلحة وأنس بن مالك -رضي الله عنهم- أن يضيفوا ذلك إلى أنفسهم باجتهادهم، ولأخذه القاتل بدون أمرهم.

                                                فإن قيل: قال البيهقي: قال الشافعي: هذه الرواية عن عمر -رضي الله عنه- ليست من روايتنا وله رواية عن سعد بن أبي وقاص في زمان عمر تخالفها، ثم قال الشافعي: أنا ابن عيينة ، عن الأسود بن يزيد، عن رجل من قومه يقال له شبر بن علقمة قال: "بارزت رجلا يوم القادسية فقتلته، فبلغ سلبه اثني عشر ألفا فنفلنيه سعد -رضي الله عنه-".

                                                قلت: الرواية بالتخميس عن عمر -رضي الله عنه- صحيحة وإن لم تكن من رواية الشافعي؛ فإن الطحاوي: أخرجها عنه بإسناد صحيح.

                                                وكذلك أخرجها أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" بإسناد وصحيح.

                                                والرواية عن سعد ليست بمخالفة لذلك في المعنى، بل موافقة، فدلتا الروايتان على أن الأمر في ذلك مفوض إلى رأي الإمام، فرأى عمر -رضي الله عنه- المصلحة في التخميس، ورأى سعد المصلحة في تنفيل ذلك لشبر، وقد ذكر أبو عمر قضية شبر ثم قال: وهذا يدل على أن أمر السلب إلى الأمير دون القاتل.




                                                الخدمات العلمية