الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5279 5280 ص: فمما بين أن ذلك كذلك: أن محمد بن خزيمة حدثنا، قال: ثنا يوسف بن عدي ، قال: ثنا عبد الله بن المبارك ، عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين ، -رضي الله عنه- قال: " أسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأسر أصحاب رسول الله -عليه السلام- رجلا من بني عامر بن صعصعة، فمر به على النبي -عليه السلام- وهو موثق، . فأقبل إليه رسول الله -عليه السلام- فقال: علام أحبس؟ قال: بجريرة حلفائك، ثم مضى رسول الله -عليه السلام- فناداه، فأقبل إليه، فقال له الأسير: إني مسلم، فقال رسول الله -عليه السلام-: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح، ثم مضى رسول الله -عليه السلام- فناداه أيضا، فأقبل، فقال: إني جائع فأطعمني، فقال النبي -عليه السلام-: هذه حاجتك، ثم إن النبي -عليه السلام- فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما".

                                                حدثنا فهد ، قال: ثنا أبو نعيم ، ثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن الحصين قال: "كانت العضباء لرجل من عقيل أسر فأخذت العضباء منه، فأتى عليه رسول الله -عليه السلام-، فقال: يا محمد، ، علام تأخذوني

                                                [ ص: 405 ] وتأخذون سابقة الحاج وقد أسلمت؟! فقال رسول الله -عليه السلام-: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح، فقال رسول الله -عليه السلام-: أخذت بجريرة حلفائك - وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي -عليه السلام - ورسول الله -عليه السلام- على حمار، عليه قطيفة، فقال: يا محمد، ، إني جائع فأطعمني وظمآن فاسقني، فقال رسول الله -عليه السلام-: هذه حاجتك، ثم إن الرجل فدي برجلين، وحبس رسول الله -عليه السلام- العضباء لرحله".


                                                فهذا حديث مفسر قد أخبر فيه عمران بن حصين أن النبي -عليه السلام- فادى بذلك المأسور بعد أن أقر بالإسلام، وقد أجمعوا أن ذلك منسوخ، وأنه ليس للإمام أن يفدي من أسر من المسلمين بمن في يده من أسراء أهل الحرب الذين قد أسلموا، وأن قول الله - عز وجل -: فلا ترجعوهن إلى الكفار قد نسخ أن يرد أحد أي العبيد من أهل الإسلام، فلما ثبت ذلك وثبت أن لا يرد إلى الكفار من جاءنا منهم، وثبت أن الذمة تحرم ما يحرم الإسلام من دماء أهلها وأموالهم، وأنه يجب علينا منع أهلها من نقضها والرجوع إلى دار الحرب كما نمنع المسلمين من نقض إسلامهم والخروج إلى دار الحرب على ذلك، وكان من أصبنا من أهل الحرب فملكناه صار بملكنا إياه ذمة لنا، ولو أعتقناه لم يعد حربيا بعد ذلك، وكان لنا أخذه بأداء الجزية إلينا كما نأخذ سائر ذمتنا، وعلينا حفظه مما نحفظهم منه، وكان حراما علينا أن نفادي بعبيدنا الكفار الذين قد ولدوا في دارنا لما قد صار لهم من الذمة.

                                                فالنظر على ذلك: أن يكون كذلك الحربي إذا أسرناه فصار ذمة لنا ووقع ملكنا عليه أن تحرم علينا المفاداة به ورده إلى أيدي المشركين، وهذا قول أبي حنيفة -رضي الله عنه-.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي فمن الذي بين أن ذلك أي الفداء المذكور في الآثار المذكورة التي احتجت بها أهل المقالة الأولى كذلك، أي كما قلنا: إنه كان في وقت كان لا بأس أن يفادى فيه بمن أسلم من أهل الحرب... إلى آخر ما ذكره.

                                                [ ص: 406 ] قوله: "أن محمد بن خزيمة" في محل الرفع على الابتداء. وقوله: "فمما بين" مقدما خبره.

                                                وأخرج حديث عمران هذا من طريقين صحيحين:

                                                الأول: عن محمد بن خريمة بن راشد ، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري ، عن عبد الله بن المبارك ، عن معمر بن راشد ، عن أيوب السختياني ، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي - أحد الأئمة الأعلام - عن عمه أبي المهلب الجرمي ، عن عمران بن حصين -رضي الله عنه-.

                                                وأخرجه الطبراني في "الكبير": نا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين قال: "كانت بنو عامر أسروا رجلين من أصحاب النبي -عليه السلام-، فأسر أصحاب النبي -عليه السلام- رجلا من ثقيف وأخذوا ناقة كان يسبق عليها الحاج، فمر به النبي -عليه السلام- وهو موثق، فقال: يا محمد، يا محمد. فعطف عليه، فقال: علام ما أحبس وتؤخذ سابقة الحاج؟ قال: بجريرة حلفائك - وكانت بنو عامر حلفاء لثقيف - ثم أجاز النبي -عليه السلام- فدعاه أيضا: يا محمد، فأجابه، فقال: إني مسلم، قال: لو قلت ذاك وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح، ثم أجاز النبي -عليه السلام-، فناداه أيضا، فرجع إليه فقال: أطعمني فإني جائع، فقال النبي -عليه السلام-: هذه حاجتك. فأمر له بطعام، ثم إن النبي -عليه السلام- فادى الرجل بالرجلين اللذين أسرا من أصحابه..." الحديث بطوله.

                                                الثاني: عن فهد بن سليمان ، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب السختياني ، عن أبي قلابة ... إلى آخره.

                                                [ ص: 407 ] وأخرجه أبو داود في "الإيمان" في باب: "ما جاء في النذر فيما لا يملكه": ثنا سليمان بن حرب ومحمد بن عيسى، قالا: ثنا حماد، قال ابن عيسى: ثنا حماد بن زيد وابن علية ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن الحصين قال: "كانت العضباء لرجل من بني عقيل وكانت من سوابق الحاج، قال: فأسر فأتى النبي -عليه السلام- وهو في وثاق والنبي -عليه السلام- على حمار عليه قطيفة، فقال: يا محمد، علام تأخذني وتأخذ سابقة الحاج؟ - زاد ابن عيسى: فقال رسول الله -عليه السلام-: إعظاما لذلك، ثم اتفقا - فقال: نأخذك بجريرة حلفائك ثقيف - وكانت ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب رسول الله -عليه السلام- وقد قال فيما قال: وأنا مسلم، أو قال: قد أسلمت، فلما مضى النبي -عليه السلام- قال ابن عيسى: ثم ناداه: يا محمد يا محمد، قال: وكان النبي -عليه السلام- رحيما رقيقا، قال: فرجع إليه فقال: ما شأنك؟ قال: إني مسلم، قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح - ثم رجعت إلى حديث سليمان - قال: يا محمد إني جائع فأطعمني، إني ظمآن فاسقني، قال: فقال النبي -عليه السلام-: هذه حاجتك - أو قال: هذه حاجته - ففودي الرجل بعد بالرجلين، قال: وحبس رسول الله -عليه السلام- العضباء [لرحله، قال: فأغار المشركون على سرح المدينة، فذهبوا بالعضباء]، قال: فلما ذهبوا بها وأسروا امرأة من المسلمين - قال أبو داود: هي امرأة أبي ذر - قال: فكانوا إذا كان من الليل يريحون إبلهم في أفنيتهم، قال: فنوموا ليلة فقامت المرأة فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا رغى حتى أتت على العضباء، قال: فأتت على ناقة ذلول مجرسة - قال ابن عيسى: فلم ترغ، قال -: فركبتها ثم جعلت لله عليها إن نجاها الله لتنحرنها، قال: فلما قدمت المدينة عرفت الناقة ناقة النبي -عليه السلام-، فأخبر النبي -عليه السلام- بذلك فأرسل إليها، فجيء بها، وأخبر بنذرها، فقال: بئس ما جزتها - أو جزيتيها - إن الله أنجاها عليها لتنحرنها، لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم".

                                                [ ص: 408 ] قوله: "علام أحبس؟" أصله على ما أحبس؛ أي: لأي شيء أحبس؟

                                                قوله: "بجريرة حلفائك". الجريرة: الخيانة والذنب؛ وذلك أنه كان بين رسول الله -عليه السلام- وبين ثقيف موادعة، فلما نقضوها ولم ينكر عليهم بنو عقيل - وكانوا معهم في العهد - صاروا مثلهم في نقض العهد فأخذه بجريرتهم، وقيل: معناه: أخذت لتدفع بك جريرة حلفائك من ثقيف، ويدل عليه: أنه فدي بعد بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف من المسلمين.

                                                و: "الحلفاء" بضم الحاء المهملة جمع حليف من الحلف وهي المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات؛ فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله -عليه السلام-: "لا حلف في الإسلام"، وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه -عليه السلام-: "وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق، وبذلك يجتمع الحديثان، وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام، والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام. وقيل: المحالفة كانت قبل الفتح، وقوله: "لا حلف في الإسلام" قاله زمن الفتح فكان ناسخا، وكان رسول الله -عليه السلام- وأبو بكر -رضي الله عنه- من المطيبين، وكان عمر -رضي الله عنه- من الأحلاف. والأحلاف ست قبائل: عبد الدار وجمح ومخزوم وعدي وكعب وسهم؛ سموا بذلك لأنهم أرادت بنو عبد مناف أخذ ما في أيدي عبد الدار من الحجابة والرفادة واللواء والسقاية، وأبت عبد الدار، عقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا، فأخرجت بنو عبد مناف جنبة مملوءة طيبا فوضعتها لأحلافهم وهم: أسد وزهرة وتيم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها وتعاقدوا، وتعاقدت بنو عبد الدار وحلفاؤها حلفا آخر مؤكدا؛ فسموا الأحلاف لذلك.

                                                [ ص: 409 ] قوله: "وأنت تملك أمرك" جملة حالية في موضع النصب.

                                                قوله: "كانت العضباء لرجل من عقيل" بضم العين وفتح القاف، والعضباء علم لناقة النبي -عليه السلام- منقول من قولهم: ناقة عضباء أي مشقوقة الأذن، ولم تكن مشقوقة الأذن، وقال بعضهم: إنها كانت مشقوقة الأذن، والأول أكثر. وقال الزمخشري: هو منقول من قولهم: ناقة عضباء، هي القصيرة اليد.

                                                قوله: "تأخذون سابقة الحاج" أراد بها الناقة العضباء؛ لأنها كانت تسبق الحاج في المشي.

                                                قوله: "عليه قطيفة" وهي كساء له خمل، والله أعلم.

                                                وباقي الكلام قد مر تفسيره عن قريب.

                                                ***




                                                الخدمات العلمية