الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فأما إذا حلف ، لا شربت ماء هذا النهر ، فقد قال الشافعي رضي الله عنه : لا سبيل إلى شرب ماء النهر كله ، ولم يتعرض لبره ولا لحنثه فيما شرب منه ، فاختلف أصحابنا في شربه منه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول أبي العباس بن سريج يحنث بما شرب منه ؛ لأنه لما استحال شرب جميعه ، صارت اليمين معقودة على ما لا يستحيل : لأن لا يصير بيمينه بعد العقد لغوا .

                                                                                                                                            ألا تراه لو قال : والله لا شربت الماء حنث بشرب ما قل منه ، وإن كان دخول الألف واللام يقتضي استيعاب جميعه ؛ لأنه لما كان شرب جميعه من المستحيل ، حمل على شرب ما لا يستحيل ، كذلك ماء النهر لما استحال شرب جميعه ، حمل على ما لا يستحيل من شرب بعضه ، وتأول قول الشافعي - رضي الله عنه - ولا سبيل إلى شرب ماء النهر كله على حمل يمينه على ما يجد سبيل إليه ، وهو أن يشرب من ماء النهر ، فعلى هذا : أي شيء شرب من مائه حنث به مما يروي أو لا يروي .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول أبي إسحاق المروزي ، ويشبه أن يكون هو الظاهر من مذهب الشافعي أنه لا يحنث بشرب بشيء من مائه ؛ لأن يمينه توجهت إلى شرب جميعه ؛ لأنه عقدها على ماء النهر ، ولم يطلق فصار النهر مقدارا كالإداوة ، وليس إذا استحال شرب الجميع وجب أن يحمل على شرب ما لا يستحيل .

                                                                                                                                            ألا تراه لو حلف لأصعدن السماء ، وهو مستحيل لم يحمل على صعود السقف ، وقد يسمى سماء ؛ لأنه غير مستحيل ، ووجب حمل يمينه في صعود السماء على الحقيقة دون المجاز كذلك في شرب ماء النهر ، فأما إذا قال : لا شربت الماء ، والألف واللام لفظ تعريف وضع لاستيعاب الجنس تارة وللمعهود أخرى وهو حقيقة فيهما ، فإذا استحال استيعاب الجنس حمل على المعهود ، وكان حقيقة فيه ، وفارق ماء النهر لأن الاسم حقيقة في جميعه ومجاز في بعضه ، وتأول قول الشافعي : " ولا سبيل إلى شرب ماء النهر كله " بسقوط حنثه .

                                                                                                                                            ثم يتفرع على هذين الوجهين في النفي أن يعقد يمينه على الإثبات فيقول : والله لأشربن ماء هذا النهر ، فعلى مقتضى قول أبي العباس : متى شرب بعض مائه بر ؛ لأنه [ ص: 382 ] لما حنث بشرب بعضه في النفي وجب أن يبر بشرب بعضه في الإثبات ، وعلى مقتضى قول المروزي لا يبر في الإثبات بشرب بعضه كما لا يحنث في النفي بشرب بعضه ، وإذا لم يبر صار محكوما بحنثه ؛ لأنه لا سبيل إلى بره ، فصار كقوله : والله لأصعدن السماء ، يكون حانثا ؛ لأنه لا سبيل له إلى البر ، وفي زمان حنثه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : عقيب يمينه ؛ لأن استحالة البر يمنع من تأخير الحنث .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يحنث من آخر حياته ؛ لأن عقد يمينه على التراخي ، فكان تحقيق الحنث على التراخي .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية