مسألة : قال الشافعي : " ولو حلف لا يشتري فأمر غيره أو لا يطلق فجعل طلاقها إليها فطلقت ، أو لا يضرب عبده فأمر غيره فضربه ، لا يحنث ، إلا أن يكون نوى ذلك " .
قال الماوردي : اعلم أنه لا يخلو حال من من ثلاثة أحوال : حلف لا يفعل شيئا فأمر غيره حتى فعله
[ ص: 377 ] أحدها : أن ينوي لا يفعله بنفسه ، فلا يحنث إذا أمر غيره بفعله ، لا يختلف المذهب فيه اعتبارا بنيته ، سواء جل قدر الحالف أو قل .
والحال الثانية : أن ينوي أنه لا كان منه ما يقتضي ذلك الفعل ولا كان باعثا عليه فيحنث إذا أمر غيره بفعله كما يحنث إذا فعله بنفسه ؛ لأنه قد كان باعثا عليه سواء جل قدر الحالف أو قل .
والحال الثالثة : أن تكون يمينه مطلقة لم تقترن بها نية ، فينقسم ذلك الفعل المحلوف عليه ثلاثة أقسام .
أحدها : أن يكون العرف في فعله جاريا بالأمر دون المباشرة من جميع الناس ، كقوله : والله لا احتجمت ، ولا افتصدت ، ولا حلقت رأسي ، ولا بنيت داري ، فإذا أمر غيره بالحجامة وفصده وحلق رأسه ، وبنى داره حنث سواء جل قدر الحالف أو قل ؛ لأنه لم يجر في العرف من قليل أو جليل أن يباشر فعلها في نفسه إلا بأمره ، فصار العرف فيه شرطا يصرف حقيقة الفعل إلى مجازه فيصير اعتبار المجاز إذا اقترن بالعرف أولى من اعتبار الحقيقة إذا فارق العرف : لأن العرف ناقل .
والقسم الثاني : أن يكون العرف في فعله جاريا بمباشرته دون أمره من جميع الناس كقوله : والله لا كتبت ، ولا قرأت ولا حججت ، ولا اعتمرت فإذا أمر غيره بالكتابة والقراءة والحج والعمرة لم يحنث سواء جل قدر الحالف أو قل ؛ لأن العرف جار بين الناس بمباشرة ذلك من كل قليل وجليل ، فصار العرف مقترنا بالحقيقة دون المجاز فخرج مجازه عن حكمه .
والقسم الثالث : أن يكون العرف مختلفا في مباشرة فعله فيباشره من دنا ، ولا يباشره من علا ، فهذا على ضربين :
أحدهما : أن يقترن بعرف الاستعمال في الاختلاف بينهما عرف الشرع ، وهو إقامة الحدود التي لا يقيمها في الشرع والعرف إلا أولو الأمر من ذي ولاية وسلطان ، فيحنث الآمر بها إن كان من أولي الأمر وإن لم يباشرها ، كما قيل : جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - زانيا ، ورجم ماعزا وقطع سارقا ، ولا يحنث بها غير أولي الأمر حتى يباشرها بفعله ؛ لأنه غير نافذ الأمر فيهما .
والضرب الثاني : أن ينفرد الاختلاف بينهما بعرف الاستعمال دون عرف الشرع ، فيباشره من دنا ، ولا يباشره من علا تنزها وتصونا كعقود البيوع والأشربة وتأديب العبيد والخدم ، فينقسم حال الحالف والمحلوف عليه ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يكون عرف الحالف جاريا بمباشرته ، كرجل من عوام السوقة ، وزوجه وطلق عنه ، وضرب عبده وأدب خادمه ، لم يحنث في هذا كله . وقال حلف [ ص: 378 ] لا باع ولا اشترى ، ولا تزوج ولا طلق ، ولا ضرب عبدا ، ولا أدب خادما ، فإذا أمر غيره بأن باع له واشترى مالك : يحنث في هذا كله ، وقال أبو حنيفة : إن كان هذا العقد مما إذا باشره الوكيل أضافه إلى نفسه كالشرى ، يقول : اشتريت هذه الدار لموكلي لم يحنث الموكل ، وإن كان مما لا يضيفه إلى نفسه كالنكاح يقول : قبلت هذا النكاح لموكلي ، ولا يقول : نكحت لموكلي ، كما يقول : اشتريت لموكلي حنث الموكل ، وكلا المذهبين مدخول ، والصحيح أن جميعها سواء في أنه لا يحنث الآمر بها والموكل فيها إذا كان العرف بمباشرته لها جاريا ؛ لأن الأيمان تحمل على حقائق الأسماء والأفعال ، ما لم ينقلها عرف الحقيقة في هذه الأفعال بمباشرتها ، والعرف مقترن بها ، فلم يجز أن يعدل في الأمر بها عن الحقيقة والعرف إلى مجاز تجرد عن العرف ، فعلى هذا لو لم يحنث ؛ لأنه لا يكون مطلقا ، وإنما يكون مخيرا في الطلاق ، ولو قال لها : إن دخلت الدار فأنت طالق ، فدخلتها طلقت وحنث ؛ لأنه مطلق لها على صفة وقعت منها فلذلك افترقا . حلف على امرأته أنه لا يطلقها ، فرد إليها الطلاق ، فطلقت نفسها
والقسم الثاني : أن يكون عرف الحالف جاريا بالاستنابة دون مباشرته ، وإن باشره استنكرته النفوس منه ، كالسلطان أو من قاربه في رتبته إذا حلف ، لا باع ولا اشترى ، ولا ضرب عبدا ، ولا أدب خادما ، فإذا وكل في البيع والشراء وأمر بضرب عبده وبأدب خادمه ففي حنثه قولان :
أحدهما : تفرد الربيع بنقله وتفرد به بعض أصحاب الشافعي ، أنه يحنث اعتبارا بالعرف ؛ لأن العرف قد صار مقترنا بالمجاز دون الحقيقة ، والعرف ناقل ، كما لو حلف : لا أكلت رءوسا ، لم يحنث برءوس الطير والجراد ، وإن وجد حقيقة الاسم فيها ؛ لأن العرف لما اختص برءوس الغنم نقل عما عداها حقيقة الاسم .
والقول الثاني : وهو الأظهر ، وما عليه الأكثرون من أصحابنا أنه لا يحنث ؛ لأن الحقيقة فيها المباشرة لها دون الأمر بها ، والحقيقة لا تنقل إلا بعرف عام ، كما قيل في الرءوس ، وهذا عرف خاص ، فلم يجز أن ينتقل به الحقيقة ، كما لو حلف سلطان : لا أكلت خبزا ولا لبست ثوبا ، فأكل خبز الذرة ولبس عباءة حنث وإن لم تجر عادته بأكل الذرة ولبس العباءة ؛ لأنه عرف خاص وليس بعام ، فلذلك ساوى فيه عرف العموم فكذلك في هذه العقود .
والقسم الثالث : أن يكون عرف الحالف جاريا بالاستنابة فيه ، لكن إن باشره لم تستنكره النفوس منه ، ولا تستقبحه ، كالنكاح والطلاق والعتاق ، لا يستقبح من السلطان أن يباشره بنفسه ، فإذا حلف سلطان لا نكح ولا طلق ، ولا أعتق ، فوكل في [ ص: 379 ] النكاح والطلاق والعتاق ، فقد اختلف أصحابنا هل يعتبر حكم عرفه أو يعتبر ما لا تستنكره النفوس من فعله ؟ على وجهين :
أحدهما : يعتبر حكم عرفه ؛ لأنه أخص به ، فعلى هذا في حنثه قولان .
والوجه الثاني : يعتبر ما لا تستنكره النفوس من فعله ؛ لأنه أعم ، فعلى هذا لا يحنث قولا واحدا ، والله أعلم .