مسألة : قال الشافعي : " ولو ، لم يحنث ، إلا أن يلبس الذي حلف عليه بعينه ، وإنما أنظر إلى مخرج اليمين ، ثم أحنث صاحبها أو أبره ، وذلك أن الأسباب متقدمة والأيمان بعدها محدثة قد يخرج على مثالها وعلى خلافها ، فأحنثه على مخرج يمينه : أرأيت رجلا لو كان قال : وهبت له مالي ، فحلف ليضربنه ، أما يحنث إن لم يضربه ؟ وليس يشبه سبب ما قال " . حلف لا يلبس ثوب رجل من عليه ، فوهبه له ، فباعه واشترى بثمنه ثوبا لبسه
قال الماوردي : اعلم أن عقد الأيمان ضربان :
أحدهما : ما ابتدأ الحالف عقد يمينه على نفسه من غير أن يتقدمها سبب يدعو إليه ، فيقول مبتدئا " والله لا كلمت زيدا " فلا يحنث بغير كلامه ، أو يقول : لا أكلت طعامه . فلا يحنث بغير أكل طعامه ، أو لا لبست له ثوبا ، فلا يحنث بغير لبس ثيابه ، أو لا ركبت له دابة ، فلا يحنث بغير ركوب دوابه . وهذا متفق عليه لم يخالفنا مالك في شيء . وتكون اليمين مقصورة على ما اقتضاه الاسم من خصوص وعموم .
والضرب الثاني : أن تتقدم اليمين أسباب دعت إليها ، مثل أن يمن عليه رجل بإحسان أو صلة إليه ، أو بمال أنعم به عليه ، فبعثه ذلك على اليمين فيقول : والله لا لبست لك ثوبا ، ولا شربت لك ماء من عطش ، فقد اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في هذا ، هل تكون اليمين محمولة على السبب المتقدم أو مقصورة على العقد المتأخر ؟ فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنها مقصورة على ما تضمنه لفظ الحالف في عقودها ، ولا اعتبار بما تقدمه من سببها ، فإذا ، ولا بأكل طعامه . ولا بدخول داره . وإذا حلف لا شربت لك من عطش لم يحنث بشرب غير الماء من الشراب ولا بلبس الثياب ولا بركوب الدواب ، وقال حلف لا يلبس له ثوبا لم يحنث بركوب دوابه مالك رحمه الله ومن وافقه من أهل المدينة - رضي الله عنهم - : إن يمينه محمولة على السبب الداعي إليها ، فإذا كان سببها المنة عامة ، حنث بكل نفع عاد إليه . فإن وركوب دوابه ، وسكن داره ، ولو حلف لا شربت لك ماء من عطش حنث بكل أقواله ، وحنث إن استظل بجدار داره اعتبارا بعموم السبب ، وإلغاء الخصوص في اليمين استدلالا بأمرين : حلف لا يلبس له ثوبا حنث بأكل طعامه
أحدهما : أنه لما جاز في الأيمان تخصيص عمومها بالعرف حتى يخرج منها بعض ما انطلق عليه الاسم جاز أن يتجاوز خصوصها بالعرف إلى غير ما انطلق عليه الاسم .
[ ص: 362 ] والثاني : أنه لما جاز في أصول الشرع تخصيص العموم في قتل المشركين مع وجود الاسم ، وجاز تجاوز النص في ثبوت الربا في البر أن ما لا ينطلق عليه اسم البر وجب اعتبار مثله في الأيمان ، فيخص عمومها بالعرف تارة مع وجود الاسم ، ويتخطاه بالعرف تارة مع عدم الاسم .
والدليل على اعتبار الاسم وإسقاط السبب هو أن السبب قد يتجرد عن اليمين فلا يتعلق به حكم ، وقد تنفرد اليمين عن سبب فيتعلق بها الحكم ، فوجب إذا اجتمعا وهما مختلفان أن يتعلق الحكم باليمين دون السبب لأمرين :
أحدها : لقوة اليمين على السبب .
والثاني : لحدوث اليمين وتقدم السبب ، وقد قال الله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان [ المائدة : 89 ] ؛ ولأن ما لا ينطلق عليه حقيقة الاسم المظهر لم يجز أن يكون في الأيمان معتبرا ، ألا تراه لو قال : والله لا ، وقطع كلامه ، وقال : أردت : لا كلمت زيدا ، لم تنعقد يمينه على الامتناع من كلامه ، وإن أراده بقلبه وقرنه بيمينه فلأن لا تنعقد على السبب الذي يقترن باليمين ولم يعتقد بالقلب أولى ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما أحكم بالظاهر ويتولى الله السرائر .
واحتج الشافعي - رضي الله عنه - على إلغاء السبب بأن رجلا لو وهب لرجل مالا فحلف الموهوب له ليضربن الواهب ، حنث إن لم يضربه ، وإن كان يمينه مخالفة لما تقدمها من السبب ، وقد كان يلزم من اعتبار الأسباب أن لا يحنثه فيها وإن لم نقله فدل على فساد اعتباره .
فأما الجواب عن استدلالهم بأنه لما جاز في الأيمان تخصيص عمومها بالعرف جاز تخطي خصوصها بالعرف ، فهو أن العرف من تخصيصها مقارن بعقدها ، فجاز اعتباره ، والعرف في تخطي خصوصها مفارق فلم يجز اعتباره ، وأما الجواب عن استدلالهم بأنه لما جاز في أصول الشرع تخصيص العموم مع وجود الاسم ، وجاز تجاوز النص في ثبوت الربا في البر إلى ما لا ينطلق عليه اسم البر كذلك في الأيمان ، فهو أن أحكام الشرع يجمع فيها بين اعتبار الأسامي والمعاني ، وأحكام الأيمان معتبرة بالأسامي دون المعاني ؛ لأن الضرورة دعت في المسكوت عنه في أحكام الشرع إلى اعتبار المعاني وتجاوز الأسامي ، ولم تدع الضرورة في الأيمان إلى اعتبار المعاني ، فوقفت على اعتبار الأسامي ، والله أعلم .