الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولو حلف لا يلبس ثوبا وهو رداء ، فقطعه قميصا أو ائتزر به ، أو حلف لا يلبس سراويل ، فائتزر به أو قميصا فارتدى به ، فهذا كله لبس يحنث به إلا أن يكون له نية فلا يحنث إلا على نيته " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذه مسألة اختلط فيها كلام أصحابنا ، حتى خبطوا خبط عشواء : وسنذكر ما يسره الله تعالى ، وأرجو أن يكون بالصواب مقرونا ، فإذا حلف لا يلبس ثوبا ، وهو على صفة ، فلبسه وهو على خلافها ، كمن حلف لا يلبس ثوبا هو رداء فأتزر به ، أو قطعه قميصا ، أو حلف لا يلبس قميصا ، فارتدى به ، أو قطعه سراويل ، أو حلف لا يلبس سراويل ، فأتزر به ، أو حوله منديلا ، أو حلف لا يلبس طيلسانا ، فتعمم به ، أو قطعه ملبوسا ، فلا يخلو حال يمينه من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يعقدها على عين الثوب ، ويلغي صفته ، وصفة لبسه ، فهذا يحنث على أي حال لبسه ، وعلى أي صفة لبسه مع تغير أحواله وأوصافه ، اعتبارا بعقد اليمين على عينه ، دون صفته ، وهذا مما اتفق أصحابنا عليه .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يعقد يمينه على صفة الثوب وصفة لبسه ، فيحنث بلبسه إذا كان على حاله ، وعلى الصفة المعتادة في لبسه ، ولا يحنث إن جعل الإزار قميصا ، أو اتزر به ، ولا إن جعل القميص سراويل ، أو ارتدى به ولا إن جعل السراويل منديلا ، أو اترز به ، حتى يجمع في لبسه بين بقائه على صفته ، وبين المعهود في لبسه ، اعتبارا بما عقد يمينه عليه ، من الجمع بين الأمرين ، وهذا مما اتفق أيضا عليه أصحابنا .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : وهو الذي اختلط فيه الكلام ، واختلف فيه الجواب ، وهو أن يعقد يمينه على الإطلاق ، فيقول : لا لبست هذا الثوب ، أو هذا القميص ، أو هذه السراويل ، [ ص: 360 ] فيغيره عن صفته ، أو يلبسه على غير عادته ، فقد اختلف أصحابنا فيما يقع به حنثه على ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : وهو الظاهر من مذهب الشافعي - رضي الله عنه - أنه يحنث بلبسه على أي صفة كانت ، فإن غير القميص سراويل أو ارتدى به أو غير السراويل منديلا ، أو اتزر به حنث ، وهو قول الجمهور من أصحابنا ، تغليبا لحكم العين على الصفة ولحكم الفعل على العادة ، وقد نص عليه بقوله ، فهذا كله ليس يحنث به ويكون قوله : لا لبست ثوبا وهو رداء من كلام الشافعي ، صفة للثوب ، وليس من كلام الحالف شرطا في الحنث ؛ لأن الحالف لو قال : هذا لم يحنث إذا لبسه وهو غير رداء " .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو منسوب إلى المزني ، وطائفة من متقدمي أصحابنا أنه لا يحنث بلبسه ، إذا غيره عن صفته ، ولا إذا لبسه على غير عادته ، فإن جعل الرداء قميصا ، أو القميص سراويل ، وارتدى بالقميص ، أو اتزر بالسراويل ، لم يحنث ، حتى يتقمص بالقميص ، ويتسرول بالسراويل ويرتدي بالرداء ، فيجمع بين بقائه على صفته ، وبين لبسه على عادته ، حتى حكي عن المزني ، أنه قال : لو حلف لا يلبس خاتما ، فلبسه في غير الخنصر من أصابعه لم يحنث ؛ لأنه عدل به عن عادة لبسه ، والعرف والعادة في الأيمان شرط معتبر ؛ ولأن المحرم ممنوع من لبس القميص ، والسراويل ، ولو ارتدى بالقميص واتزر بالسراويل ، جاز ولم يكفر .

                                                                                                                                            وتأول قائل هذا الوجه كلام الشافعي ، فهذا كله ليس بحنث على النفي أي لا يحنث به ، وهذا التأويل لكلامه زلل من قائله ؛ لأن الشافعي قال بعده ، إلا أن تكون له نية ولا نحسبه إلا على نيته ، وهذا استثناء ، وحكم الاستثناء ضد حكم المستثنى منه ، فهذا الاستثناء نفي فلم يجز أن يعود إلى نفي ؛ لأنه إنما يستثنى النفي من الإثبات ، ويستثنى الإثبات من النفي ، فدل على فساد هذا التأويل ، وإن كان لما قاله من الحكم وجه .

                                                                                                                                            والوجه الثالث - وهو قول أبي إسحاق المروزي - أنه إن كانت يمينه على الثوب حنث بلبسه ، على جميع الأحوال ، فإن اشتمل به أو ارتدى أو تعمم ، أو قطعه قميصا ، أو سراويل حنث ، وإن كانت يمينه على قميص لم يحنث إذا غيره فجعله سراويل ، أو ارتدى به ، ولم يتقمص ، وفرق بين اسم الثوب والقميص بأن اسم الثوب عام ، ينطلق على كل ملبوس ، ولا يزول عنه اسم الثوب وإن تغيرت أوصافه ، واسم القميص خاص ، يزول عنه اسم القميص ، إذا غيره فجعل سراويل ، أو يخرج عن العرف ، إذا لبس على غير المعهود من الارتداء به ، فلم يحنث بتغيير لبسه ، ولا بتخيير قطعه ، لوقوع الفرق بينهما ببقاء الاسم على الثوب إذا غير لعمومه وزواله عن القميص ، إذا غير [ ص: 361 ] لخصوصه ، ومن حكى عن أبي إسحاق غير هذا حرف عليه ؛ لأن شرحه دال على ما ذكرنا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية